حكمة الفقه
عند القراءة في فقه المتقدمين من سلف هذه الأمة وأعيان فقهائها ومنهجهم في فهم النصوص الشرعية نرى أوجها من تمام الفقه وحسن القصد لا بد من النظر فيها على وجه من الاقتداء والاعتبار، ومن هذه الأوجه التي درجوا عليها مراعاتهم لما جرى عليه عمل الناس وتلقوه بالقبول وبعدهم عن تقصد مخالفة ذلك، قال ابن أبي الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء ويسألهم عن السنن والأقضية التي يعمل بها فيثبتها، وما كان لا يعمل به الناس ألغاه وإن كان مخرجه ثقة.
وهذا الوجه من مراعاة ما عليه عمل الناس لا يفهم منه الإقصاء للنص الشرعي الثابت، وإنما هو وجه من حسن السياسة لأمر العامة؛ إذ عمل الناس المعتبر في هذا المقام هو ما دل عليه الدليل الشرعي، ومن المعلوم أن الأدلة الشرعية ليست على باب واحد من القوة في الثبوت والدلالة، ونتيجة ذلك ألا تكون على باب واحد في العمل بها، بمعنى التزام العمل بالدليل المعين في سائر الموارد دون النظر في سياقات النصوص مجتمعة، وما فيها من الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، والعلل والمقاصد التي اعتبرها الشارع إما اعتبارا عاما أو خاصا في الحكم المعين، هذا مع العلم أن جملة مما جاء به وجه من آحاد الرواية وجرى عمل أئمة الفقه والحديث على تركه إنما هو من قبيل الشاذ الذي حكموا بشذوذه.
والقصد أن مراعاة عمل الناس وما جروا فيه على قول إمام معتبر وله وجه من الشريعة مما ينبغي على من له عناية بالعلم مراعاته عند النظر في الفتوى في الأحكام الشرعية وترتيب الخلاف، فلا يقصد إلى تحريك عوام المسلمين إلى مخالفته إلا بعد تأن وتحر تامين، وهذا كما أنه ينبغي العناية به في مقام الفتوى الشرعية فكذلك ينبغي العناية به في مقام الدعوة إلى الله، ولا سيما إذ علم أن كثيرا من النفوس ألفت استثقال ترك ما اعتادت عليه.
وأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها يقول: (يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس وباب يخرجون).
وإن كان هذا المقام في وجه خاص لصاحب الرسالة فإن جملة منه فقه يعرفه من أوتي حسن نظر في الشريعة، وامتازت عنده موارد اللزوم والتمام عن موارد الاجتهاد، واستقرأ فقه السالفين من أئمة الفقهاء مع حفظه لمقام النص ولزوم اتباعه، والله الهادي.