رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ما بعد انتفاضة الحصار

[email protected]

كنت قد تناولت في الأسبوع الماضي الحصار الذي ضربته دولة الكيان الصهيوني على قطاع غزة بهدف تجويع الشعب الفلسطيني، ومن ثم ثنيه عن أهدافه في السعي إلى إقامة دولته ودحر المعتدي، وطرده من حيث أتى. وقد تناول المقال أيضا ما ترتب على عملية الحصار من اقتحام بوابة رفح ونسف الجدار الحدودي مع مصر، وتدفق مئات الآلاف من فلسطينيي غزة إلى مصر بهدف التبضع والحصول على احتياجات الحياة الضرورية التي حرموا منها بفعل إجراءات العدو وعجز النظام العربي الرسمي الذي وقف متفرجا على الموقف، واكتفى بالمناداة للتدخل، واستدرار العطف من غير أهله. ونظرا لأن ما حدث من تحرك من غزة إلى الأراضي المصرية قد أحدث الكثير والغريب من ردود الفعل سواء من العدو الصهيوني الذي ساءه أن يرى الفلسطينيين وهم يجتازون الحدود المصرية مرحباً بهم من قبل إخوانهم المصريين ودونما حاجة إلى تدخله والخضوع لشروطه، وإجراءاته التي مارسها في السنوات السابقة تحت مظلة اتفاقيات دولية زائفة, لذا فإن مناقشة وتحليل الآثار المترتبة على هذه الانتفاضة العفوية يمثل أمرا ضروريا ذلك أن الصراع مع العدو الشرس يتطلب معرفة كل الأمور والتفاصيل ورسم خطوات، وإجراءات الصراع بشكل دقيق وحذق, فالعدو ومعه الغرب يستغل كل حدث، وكل فعل لإيقاع الفلسطينيين، والعرب في الفخ، ومن ثم دفع الثمن الباهظ . ومع أن الحكومة المصرية تعاملت مع عملية التحرك نحو أراضيها بأريحية وترحيب توجبهما علاقات الدين والدم والجوار والتاريخ بين الشعبين الفلسطيني والمصري, إلا أن ما أثير من العدو ومن أطراف أخرى جعل الحكومة المصرية تعيد النظر في الكيفية التي حدث بها التحرك وليس في مبدأ التحرك، ولذا جاءت عملية تنظيم العبور والتحرك، وذلك بزيادة الجنود المصريين إلى عشرات الآلاف بدلا من المئات التي نص عليها اتفاق كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني. من الطبيعي للإنسان العربي أينما كان أن يتساءل عن الحدود المغلقة بين الدول العربية وفلسطين، هل إغلاق الحدود لمصلحة الفلسطينيين أم لمصلحة العدو الصهيوني؟ الظاهر لنا أن الدول العربية تحولت, وللأسف الشديد, إلى حارس وحامٍ للعدو، بل عامل مساعد على ضعاف الفلسطينيين الذين لا يمكنهم التحرك إلا من خلال معابر تشرف عليها إسرائيل، وطوال هذه السنين عانى الفلسطينيون في حركتهم للحج والعمرة وفي حركتهم خارج فلسطين بهدف التطبب والعمل والدراسة، وعلق الفلسطينيون على المعابر، والحدود لأشهر عدة، ومرض من مرض، ومات من مات بفعل الانتظار والإجراءات الإجرامية التي مورست بحقهم من قبل سلطات العدو التي حصلت على حق إذلال الفلسطينيين باسم الاتفاقيات الدولية. الأصل في العلاقات بين الدول والشعوب العربية أن تكون مرنة ولا نقول مفتوحة كما هو الحال في أوروبا، حيث يتنقل الأجنبي القادم من أي مكان في العالم بين دول الاتحاد الأوروبي دون توقف عند حدود أو معبر لدقائق، ولا نقول لساعات، ومع أن هذا الوضع يعتبر مثاليا في وضعنا العربي الراهن إلا أن ما حدث ويحدث للفلسطينيين على المعابر، والحدود العربية من تعسف وإذلال لا يمكن قبوله أو تبريره باسم اتفاقيات دولية ظالمة، فالاتفاقيات الدولية لا تعطي لأي أحد كان إزهاق الأرواح وإذلال الناس وتهديدهم في غذائهم وصحتهم ومعاشهم. ومع تسليمنا بأن واقع النظام العربي الرسمي لم يصل إلى المرحلة التي يسمح فيها بالحركة الحرة كما في أوروبا إلا أن ما يجب أن يحدث خاصة مع فلسطين والدول المجاورة لها هو إيجاد إجراء مرن يمكن الفلسطينيين من الحركة للعمل والعلاج والزيارة والدراسة وغير ذلك من أنشطة الحياة المختلفة. لقد كشف التحرك من رفح الفلسطينية إلى الأراضي المصرية الكثير من الحقائق التي تؤكد قوة اللحمة بين الشعوب العربية والإسلامية, وأولى هذه الحقائق هي النسب والتزاوج بين الفلسطينيين والمصريين, فالكثير من العائلات توجد بينها علاقات نسب ومصاهرة مما يزيد من وحدة الشعب والأمة بكاملها. وهذا عكس ما تحاول جهات عدة داخلية وخارجية إحداثه بين أبناء الأمة والشعب الواحد, إذ إن البعض يسعى إلى إثارة النعرات التي تمزق الأمة وتشتت شملها.
من الآثار الإيجابية لهذا التحرك من غزة إلى مصر تنشيط الحركة الاقتصادية في الجانب المصري, إذ ذكرت التقارير أن الفلسطينيين ضخوا في السوق المصرية خلال اليومين الأولين ربع مليار دولار, وهذا مكسب كبير للطرفين, فالفلسطينيون حصلوا على حاجاتهم التي حرمهم منها الحصار الجائر كالغذاء والدواء والوقود ومواد البناء وغيرها, والمصريون من جانبهم نشطت السوق لديهم وزادت السيولة بفعل الطلب المضاعف على بضائعهم.
انتفاضة الحصار تعدى أثرها إلى الجانب السياسي, الذي من الممكن مناقشته من عدة أبعاد أولها البعد الفلسطيني والبعد الفلسطيني ـ المصري والبعد الفلسطيني ـ الإسرائيلي والبعد الدولي, الشأن الفلسطيني ـ الفلسطيني تمثل في إبراز وجهات النظر المختلفة بين "حماس" التي تسيطر على غزة وبين السلطة الفلسطينية في رام الله, حيث إن سقوط المعابر أمام مئات الألوف غير الأوضاع ونسف الأمر الواقع السائد فيما مضى والذي ارتبط بإذلال الشعب الفلسطيني وقمعه باسم الاتفاقيات الدولية التي أعطت للعدو الصهيوني حق التحكم في هذه المعابر. ما ليس مقبولا بل مستهجنا من إفرازات انتفاضة الحصار مناداة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بعودة الأمور في معبر رفح إلى سابق أمرها حيث التحكم الإسرائيلي والنفوذ الصهيوني, ومن شأن القبول بهذا الطرح العودة إلى مسلسل الإذلال والإهانة والتنازل عن مفهوم الدولة المستقلة. إن وجود معبر لا يخضع لإجراءات العدو يمثل دفعة قوية وعنصرا أساسيا في مشوار بناء الدولة. إن التفاهم بين طرفي المعادلة الفلسطينية أمر ضروري يتم بموجبه تجاوز بعض المحن التي يمر بها الشعب الفلسطيني ويمكنه من الخروج عن طوق الإذلال المحيط به ويعطيه نافذة على العالم يتمكن من خلالها توفير احتياجاته ومتطلباته الحياتية. العلاقة الفلسطينية المصرية أصبحت على المحك بفعل التطورات التي حدثت على معبر رفح, فالمصريون يرون في اتفاقيات سابقة أمرا ملزما لهم وعليهم التقيد به وفي الوقت ذاته علاقات الدين والدم والتاريخ لا تسمح لهم بالوقوف متفرجين على ما يجري للفلسطينيين. ما يتعلق بالاتفاقيات الدولية الرد عليه أمر ميسر, فالعدو لا يحترم الاتفاقيات والمواثيق والقرارات الدولية, كما أن ممارساته بشأن الحصار تتناقض مع أبسط قواعد المنطق الواجب مراعاته دوليا. أما الآثار على المستوى الدولي فهو أن ما حدث يمثل رسالة قوية توجه لكل من يعتقد أن سياسة الحصار سياسة ناجحة في إذلال الشعوب وسلبها إرادتها إن ما حدث أسقط سياسة العنجهية وأثبت أن إرادة الشعوب لا تقهر وسعيها نحو التحرر لا يمكن إيقافه. العلاقة الفلسطينية ـ المصرية حاول البعض الصيد في الماء العكر بشأنها بهدف زعزعتها والنيل منها وذلك بإثارة المخاوف, إذ إن ما نشر من سيناريوهات محتملة بعد سقوط المعابر كان هدفها الأساس إثارة مخاوف الجانب المصري بشأن إمكانية تحمله مسؤولية إدارة القطاع, ومثل هذا الاحتمال ربما يضفي عبئا ثقيلا للحكومة المصرية التي تواجه الكثير من الضغوط والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية, أما سيناريو إمكانية اقتطاع جزء من الأراضي المصرية لتكون عليها الدولة الفلسطينية التي يبشر بها الرئيس بوش فهذا أمر مخيف للجانب المصري أيضا, لكن كل هذه المخاوف يفترض ألا تنال من عزيمة الأمة وتضعفها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي