باسكال بروكنر و"نهاية التاريخ" على الطريقة الفرنسية
باسكـال بروكنر, صحافي وروائي وفيلسوف فرنسي ينتمـي إلى جيـل "الفلاسفة الجدد" في أوروبا, يعلن انبعاث رأس المال من رماده لحظة وصوله طور الاحتضار وأن اللحظة المقبلة هي الخروج من النزعة الاقتصادية بعد أنسنة الرأسمالية، ليطهو "نهاية تاريخ" أخرى وفق الوصفة الفرنسية، تاركا فرانسيس فوكوياما يتآكل حنقا على ما فاته من تواضع ولمسة أدبية لحظة وصوله إلى "نهاية التاريخ ومنتهى الإنسان" على طريقة رعاة البقر.
بروكنر، الذي يستطيع ببساطة التوفيق بين رهافة المشاعر التي توشك على الانفجار حزنا على طائر عابر سقط ميتا نتيجة نقص الأوزون، وبين دعمه وحماسه الشديد لغزو العراق، الذي تجلى في رسائل تأييد متلاحقة إلى وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد، إضافة إلى مجموعة مقالات مؤيدة للغزو نشرتها صحيفة "اللوموند الفرنسية".. يعتبر أنموذجا للكاتب (1986)، لمواهب فهو صحافي وروائي وفيلسوف، شغل منصب مدير معهد الدراسات السياسية في باريس، وهو محرر عمود دائم في صحيفة "نوفيل أوبزرفاتور". وقد اختيرت روايته "القمر اللاذع" لتكون موضوع سيناريو فلم لرومان بولانسكي، نال جـوائز عديدة من بينها جائزة الأكاديمية الفرنسية عـام 2000، جـائزة رينودوت 1997، جائزة ميديس عام 1995, من مؤلفاته:
"دموع الرجل الأبيض" (1986)، "ملائكة الشر" (1987)، "الطفل العـراف" (1994)، "لصوص الجمال" (1999)، "شغف البراءة" (2000).
في كتـابه "بؤس الرفاهية" يعلن بروكنر عودة الوجه الشيطـاني للرأسمالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتـي (1989)، حيث لا ضرورة بعد الآن لمساحيق التجميل في نظام عالمي أحادي القطب، تتبختر فيه الرأسمالية محتفلة بانتصارها الزائف، والحقيقة هي أن اقتصاد السوق قد أخفق في الوفاء بوعوده، تاركا على قارعة الطريق مئات الملايين من البشر، وكاشفا عن وجهه البشع كماكينة إنتاج للثروة دون أي غائية أخرى سوى المزيد والمزيد من الثروة، وكأن الاستهـلاك المحموم أصبح الهدف الأقصى للحضارة الغربية الأمر الذي تسبب في انكفاء الأفراد على أنفسهم وضعف اهتمامهم بالعالم، بعد أن أصبحت السياسة مجرد امتداد لإدارة شركات تسمى فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
لم تصل الفوارق الاقتصادية يوما إلى هذا الحد من الاتساع على خلفية من الترف المثير, فعلى الرغم من النمو المرتفع لاقتصاديات بعض البلدان النامية, إلا أنه يعيش حاليا 20 في المائة من سكان الأرض بأقل من دولار واحد في اليوم، كما يعاني طفل من بين أربعة أطفال في الجنوب سوء التغذية، وبحسب إحصاءات البنك الدولي, لا تتوافر مساكن مستقرة لأكثر من 600 مليون فرد. والأمر لا يقتصر على البلدان الفقيرة وحدها، ففي أمريكا نهاية الثمانينيات، أضاع العامل الأمريكي ربح 30 سنة من الرفاهية، عندما عادت القوة الشرائية إلى المستوى الذي كانت عليه في مطلع الستينيات.. والقضية تتعدى لغة الأرقام والمال إلى العمق البشري ذاته، فتحقيق الرفاهية في الدول المتقدمة لا يتحقق إلا بثمن باهظ قوامه المزيد من العمل والمزيد من القلق والضغط النفسي، بالتلازم مع انحطاط الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والعائلية، فآليات النظام الاقتصادي المعاصر تلتهم زمن البشر وطاقتهم ما يفضي بهم إلى حياة بائسة تتوزع بين الجهد والراحة لاستئناف الجهد من جديد.
هل ستنتهي الرأسماليـة يوما كنظام اقتصادي - اجتماعي؟ ولماذا ينبعـث الرأسمال من رماده كلما اعتقدنا أنه في طور الاحتضار؟ يلفت بروكنر نظرنا بطريقة لا تخلو من الشماتة إلى الدور الذي يلعبه أعداء الرأسمالية في بنـاء صروحها، ففي اقتصاد السوق ليس النقد سوى نوع من التعاون، لأن النظام الرأسمالي عندما يترك في منحدره يسير إلى الهاوية، وإذا كانت الرأسمالية لا تزال حية بعد قرنين من الزمن, فإن الفضل في ذلك يعود إلى أعدائها بقدر ما يعود لأشياعها، وقد بدا للعيان بشكل دراماتيكي أن النظام الرأسمالي كان سيموت حتما, لو لم تكن له هذه القدرة الغريبة على تهذيب نفسه بفضل أولئك الذين ينوون مسحه من الخارطة.. لقد أنقذت الشيوعية الرأسمالية، بعد أن كادت تقضي عليها، من جهة ببناء نماذج كاريكاتيرية مضادة بديلة، ومن جهـة أخرى بتوجيه النظر إلى عيوبها، مما أعطاها دفعة قوية للتجدد والحياة. لقد استوعب النظام الرأسمالي الانتقادات لتحويلها إلى مزايا بارتدائه ثوب التشاور والشفافية فإذا كان علاج أمراض الرأسمالية يأتي من داخلـها فإنها لم تكن لتنتبه إلى هذه الأمراض إلا بفضل أعدائها، ولذا لا يمكنها إلا أن تمتن لهؤلاء المراقبين الذين يحذرونها من العوائق ويجنبونها الغرق.