كيف تصبح الرياض مركزا ماليا؟ ( 1 من 2 )
كان من ضمن الضيوف المتحدثين في منتدى التنافسية الذي عقد في الرياض أخيرا، لي كوان يو باني نهضة سنغافورة الحديثة. سيذكر التاريخ قادة سياسيين آسيويين عظاما، جاهدوا المستعمرين وحققوا لبلادهم كيانا سياسيا مستقلا، لكن قليلا جدا منهم الذين استطاعوا خلال أربعة عقود الانتقال باقتصاد بلدانهم من عداد الاقتصادات المتخلفة إلى اقتصاد متطور وقوي، قبل نحو 40 عاما، حول هذا الرجل، بذكائه المتوقد، وبصيرته النافذة، ورؤيته الثاقبة، وفهمه العميق للتاريخ، جزيرة سنغافورة من مستعمرة متخلفة، فقيرة، وعاجزة إلى بلد متحضر، غني، ومزدهر. كانت مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا تحرص على قراءة وتحليل كل خطاب أو تصريح يلقيه هذا الرجل! وكانت ترى أسلوبه فذا قادرا على اختراق الحجب الضبابية الدعائية، والتعبير بوضوح فريد عن قضايا العصر، فضلا عن معرفته الفائقة بكيفية التعامل مع هذه القضايا بطريقة سليمة وصحيحة. كما اعتبر كوفي عنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة، تجربة سنغافورة التنموية مثالا حيا لكل الذين يهتمون بمصيرهم ومستقبلهم من شعوب الدول النامية.
ونحن لدينا طموح أن تكون الرياض مركزا ماليا متقدما في منطقتنا العربية، بالنظر لحجم اقتصادنا وضخامة موارده. وقد وضعت بالفعل التصاميم المعمارية لهذا المركز. لكني أتمنى أن ندرك أن هذا الهدف لا يتوقف فقط على توافر الموارد المالية وضخامة المباني الأسمنتية. بل يتوقف في الدرجة الأولى على البنية التحتية التنظيمية. إن علينا أن نحدد بدقة ما نهدف إليه. هل نطمح أن نكون مركزا ماليا حقيقيا في المنطقة، يوطن الأموال المحلية ويستقطب الأموال الخارجية لتغذية الاستثمارات المختلفة في اقتصادنا، أم مجرد وسيط لتجميع الأموال وتحويلها للمراكز المالية العالمية والإقليمية ؟
عندما خطط السنغافوريون لجعل بلدهم مركزا ماليا في جنوب شرق آسيا، وضعوا خريطة العالم تحت نظرهم، وحددوا مواقع ومواعيد عمل مراكز المال العالمية. ووجدوا أن بإمكانهم أن يجعلوا من بلدهم مركزا ماليا مرموقا يخدم حركة الاقتصاد في منطقة جنوب شرق آسيا، وينافس المراكز المالية الدولية في زيورخ، فرانكفورت، لندن، نيويورك، وسان فرانسيسكو. ولاحظوا أن هذه المراكز تتوالى في الافتتاح والانغلاق، وأن بإمكانهم إدخال مركزهم المالي في هذه المنظومة، وإذا نجحوا في ذلك، فإنهم سيجعلون الخدمة المالية والمصرفية العالمية تعمل لمدة 24 ساعة لأول مرة في التاريخ. لكن كان عليهم أن يثبتوا للمحافل المالية والمصرفية حول العالم، أن أوضاعهم الاجتماعية مستقرة، وأنهم جادون في بث الحيوية والنظام والانضباط في بيئتهم المالية والمصرفية، وقادرون على تأسيس مركز مالي يقوم على بنية تحتية تنظيمية قوية وسليمة، ومدعومة بمهارة فرق متعددة من المختصين والمحترفين القادرين على التجاوب والتكيف مع متطلبات الأسواق المالية. وعرفوا أن بناء الثقة سيعتمد على مدى التزامهم بالعمل وفقا للقوانين والقواعد العالمية الضابطة لعمل المراكز المالية. وعقدوا العزم على ذلك، وألزموا أنفسهم بمراجعتها وتعديلها بشكل دوري لتتماشى مع مختلف التطورات التي تجرى في مجال الخدمات المالية. وكان عملهم كفاحا متواصلا في كل خطوة من أجل بناء وترسيخ الثقة في نظامهم، وضمان الاستقامة والكفاءة في أداء كوادرهم البشرية المشرفة على عمل المصارف ومؤسسات الضمان وسواها من المؤسسات المالية. كانوا حريصين كل الحرص على ذلك، من أجل أن يتقلص خطر الفشل المنهجي إلى الحد الأدني.
كانت بدايتهم في تأسيس ما اصطلح على تسميته بسوق الدولار الآسيوي البحري، ليكون نظيرا لسوق الدولار الأوروبي. عمل هذا السوق في البداية كوسيط مالي يخدم النشاط البحري، فيحصل على التمويل الأجنبي بالعملات الأجنبية من المصارف الخارجية، ثم يقرضها لمصارف المنطقة، وبالعكس. ثم أخذوا يتوسعون في تمويل أنشطة أخرى، فتاجروا في العملات الأجنبية وسواها من السندات والأصول المالية، مع استمرارهم في مهمة توفير التمويل، وإصدار صكوك التأمين، وإدارة الاعتمادات المالية حتى تجاوز حجم سوق الدولار الآسيوي 500 مليار دولار عام 1997. وهذا مبلغ يعادل نحو ثلاثة أمثال حجم سوق سنغافورة المصرفي المحلي. كان النمو عاليا لأنه لبى احتياجات السوق، ومن المؤكد أنهم كانوا يشعرون بإرهاصات نمو منطقة آسيا برمتها حتى من قبل أن تظهر قوة الصين وكوريا الجنوبية والهند. كيف نستفيد من هذه التجربة؟ نتابع الأسبوع المقبل بحول الله.