البحث العلمي والتقدم الصناعي
ليس من الصعوبة إدراك مدى العلاقة الحميمة بين التقدم العلمي والازدهار الصناعي، ويكاد يبنى التقدم الصناعي بالأساس على امتلاك أسباب العلم والمعرفة. وقد ساعد البحث العلمي كثيراً في نهوض الأمم وحل مشكلاتها المختلفة كتلك المتعلقة بشؤون الطاقة أو البيئة أو الصحة.
هنالك دورة متكاملة بين مؤسسات التعليم العالي، حيث تخريج الباحثين المدربين وقطاع الصناعة هو المستفيد الأكبر من نتائج البحوث العلمية ومخرجاتها والخبرات المكتسبة. ويعد البحث العلمي طرف مهم وأساسي في هذه الدورة، فهو المستفيد من دعم الصناعة والعامل على تلبية احتياجاتها الفنية والتقنية. وكلما زاد التناغم والتنسيق بين أضلاع المثلث هذه (التعليم العالي والصناعة والبحث العلمي) فإن القيمة المضافة لعطاء كل منها تتضاعف ويصبح المجتمع الرابح الأكبر.
إن للبحث العلمي الأكاديمي أو الخاص (ما يحدث في الشركات الكبيرة) دور مهم وفاعل في تنمية ورفعة المجتمعات. ففي كل عصر هنالك تحديات جديدة تواجه الإنسان في كل مجالات الحياة، كانتشار أوبئة غريبة أو تفاقم بعض الأخطار التى من شأنها تهديد البيئة بشكل مباشر أو حدوث خلل في استخدام الموارد والثروات الطبيعية. عندئذ لا بد من أن تملك المجتمعات ثقافة البحث العلمي الجاد التى من شأنها إيجاد الحلول والمفاتيح لهذه المعضلات.
إن تعاون القطاع الصناعي الداخلي مع الجامعات المحلية يعد مطلبا وركيزة من شأنه أن يدعم عملية البحث والتطوير في هذا الوطن. ويمكن القول إن على الشركات أن تكون بعيدة النظر في تعاونها مع الجامعات، وأن تتحلى بالصبر إن واجهتها بعض الصعوبات حتى يتم بناء الثقة المتبادلة بينهما. فمعظم قيادي هذه الشركات هم من خريجو هذه الجامعات، وهم يعرفون جيدا أماكن القوة أو الضعف فيها، حيث يصبح بالإمكان، ومن خلال التشاور والتنسيق تطوير ودعم برامج البحوث والتطوير بها، لاسيما أن الخبرات الصناعية التى تمتلكها هذه الشركات تعد مرشداً رئيسا للبحث العلمي التطبيقي.
ومن جهة أخرى يجب على الباحثين إدراك حقيقة أن دعم الصناعة لهم محدود ومشروط بالجدية والإبداع وتقديم النتائج القابلة للتطبيق، فمن غير المعقول ألا تتلقى الصناعة مقابلا مقنعاً لما تدفعه من دعم مقطوع من ميزانياتها المحدودة. وتبقى حسن إدارة البحث العلمي من أهم عوامل نجاحه، إذ يحسن مراجعة الباحثين عدة مرات خلال إجراء البحث ومعرفة ما تم إنجازه بالتنسيق مع الجهة الداعمة. وكلما كان التركيز على المشكلات الاستراتيجية والتعرض لها بشكل مباشر بعيداً عن القشور كان النجاح ولو بشكل تدريجي وببطء لكن بثبات.
إن لربط البحث العلمي بالصناعة منافع كثيرة، منها تطوير الإنتاج وتحسين نوعيته، ما يدعم قدراتها التنافسية على الصعيدين المحلي والعالمي، وكذلك الحصول على منتجات جديدة ذات استخدامات جديدة أيضا، خاصة في ظل الوضع الحالي، حيث تعزف الكثير من الشركات العالمية عن إعطائها تقنياتها. أما بالنسبة لمؤسسات البحث العلمي، فإنه يؤدي إلى دعم البنى البحثية، وزيادة مواردها المادية مما يمكنها من زيادة قدراتها الفنية وتأهيل كوادرها لمواكبة التطورات العالمية في التكنولوجيا هذا عدا تزويدها بالخبرات الصناعية المكتسبة من الشركات بحكم عملها الأمر الذي يساعد على تحديد الأولويات البحثية التي تخدم تطور الإنتاج والفكر الصناعي بشكل عام.
التقنية هي من حق الجميع، ولكنها تبقى حكرا على المجتهدين والمثابرين الذين قضوا الساعات الطوال في المختبرات وهم يداعبون المواد الكيماوية أو الدوائر الكهربائية لمعرفة ما تكنه من خبايا وأسرار يمكن تسخيرها لخدمة الإنسان والمجتمع.
ويبقى السؤال الأهم، وهو كيفية تقييم أداء مؤسساتنا العلمية والصناعية في البحث العلمي. هنالك عدة مقاييس يمكن من خلالها معرفة مدى تقدم المؤسسات العلمية منها عدد الدوريات العلمية العالمية المحكمة التى تصدر من المؤسسة التعليمية أو الصناعية. ولكن يبدو أن أعداد براءات الاختراع بدأت بأخذ موقع مرموق ومعترف به عالميا كمقياس يسجل صعود أو هبوط المؤسسات أو حتى الدول في البحث العلمي. فعلى سبيل المثال تم تسجيل 173771 براءة اختراع عام 2006م في الولايات المتحدة، نحو 90 ألف منها أمريكي المنشأ والباقي من خارج الولايات المتحدة. يعرض جدول (1) أهم عشر دول في إصدار براءات الاختراع، ويجب ملاحظة أن هذه الدول قد استحوذت على أكثر من 93 في المائة من إجمالي ما أصدر من براءات اختراع في الولايات المتحدة.
أما على مستوى الشركات التجارية، فتتصدر شركة IBM المختصة بالحاسبات الآلية كل الشركات التجارية من حيث تسجيل البراءات الصادرة في الولايات المتحدة، ففي عام 2006 م فقط تم إصدار 3621 براءة اختراع وتبعتها شركة سامسونج الكهربائية. ويعرض جدول (2) أهم الشركات من حيث إصدار هذه البراءات. ويستطيع القارئ الكريم أن يلحظ أن أغلب هذه الشركات هي شركات كهربائية أو إلكترونية أو شركات تعنى بالحاسبات الآلية.
ويجب أن ندرك أن براءات الاختراع هذه لم تأت من فراغ، بل أتت نتيجة طبيعية لصرف مبالغ هائلة من المال والجهد وصرف ساعات طوال في المختبرات حتى تم الحصول عليها. فعلى سبيل المثال وصلت قيمة ما أنفقته شركة مايكروسوفت على البحث والتطوير نحو 25 مليار ريال في 2006، وأنفقت شركة جنرل موترز GM أيضا المبلغ نفسه تقريباً للعام نفسه، الأمر الذي يجعلنا نستغرق كثيراً في التأمل والتفكير والتساؤل.
يكون الصرف على البحث والتطوير في معظم الدول من خلال عملية منظمة كأن يستقطع نسبة معينة من الناتج القومي لتصرف على عمليات البحث والتطوير. فمثلاً تدفع كوريا الجنوبية نحو 2.7 في المائة من الناتج القومي GDP على البحث، وتدفع أوروبا نحو 2.2 في المائة بينما لا توجد إحصائيات دقيقة لما تدفعه الدول العربية على البحث والتطوير.
أخيرا يبدو أن للشركات اليابانية حظاً كبيراً في ملكية هذه البراءات، الأمر الذي يفسر ويعلل تقدم اليابان التقني، هذا البلد الذي لا يملك أي مصادر طبيعية ويعد من اكبر المستوردين لمصادر الطاقة من نفط وغاز، ولكن بالعلم والمثابرة استطاعت اليابان أن تفرض نفسها كلاعب أساسي ورئيس في الساحة العالمية.