ما وراء الأزمة!
تعيش غزة هذه الليالي تحت ظلام دامس, يهدد الحياة الإنسانية, ويعرضها لموت محقق, وأحداثها ومآسيها هذه الأيام ملء سمع العالم وبصره, ولهذا كانت أحداث تلك البقعة الصغيرة من العالم محط اهتمام بعض الفضائيات العربية الحية التي لا تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة, في ظل حضور إعلامي خافت لعدد كبير من القنوات الفضائية العربية الأخرى! وكأن هناك حدثاً في غزة لا يؤبه له, أو لا يستحق الاهتمام!! ولا أدري في ظل هذا الغياب الإعلامي, كيف يمكن لباقي الجسد الإسلامي أن يتداعى بالسهر والحمى لعضوه المصاب الذي أنهكه الجوع والمرض والحصار؟
ليس العجب من فضائيات تغيب عن هموم المسلمين وآلامهم؛ لكونها غارقة في أتون العهر والعري والفجور, أو لكونها سابحة في أحداث اللهو والرياضة والفن, ولكن العجب من فضائيات محافظة, تعرض برنامجاً للطبخ, أو آخر للطفل, أو برنامجاً حول المرض النفسي وأثره على الحياة الأسرية, أو تقريراً عن الأسماك في البحر الأحمر, أو عرضاً تصويرياً عن حيوانات النمور في غابات إفريقيا لحظة انقضاضها على فريستها, في الوقت الذي تعرض فيه بعض الفضائيات الأخرى ما يحل بإخواننا المسلمين في غزة لحظة انقطاع التيار الكهربائي, ولحظة بكاء النساء وأنين الأطفال من قلة الغذاء, ولحظة هاجس الخوف الذي تسلل إلى المرضى من نقص الدواء, فتنقل هذه الفضائيات بحسها الإعلامي المرهف, وبما لديها من مهنية راقية, تنقل نقلاً مباشراً هذه الوقائع الإنسانية, ليصل بكاء المرأة وأنين الطفل وهاجس الخوف الفلسطيني إلى كل من في نفسه حرقه وغيرة أو إنسانية لهؤلاء المستضعفين العزل الذين لا حول لهم ولا قوة, وهو- إن صح التعبير- جهاد إعلامي مميز, ولا سيما في ظل تقاعس إعلامي عام ومخجل ومحير!! فما هو عذر هذه القنوات الفضائية عن عدم نقل هذه الأحداث لحظة وقوعها, ولا سيما هي تنقلها بعد ذلك مع موعد الأخبار, ولكن بعد (خراب مالطا!!) وهل يجمل بنا أن نساعد - ونحن لا نشعر - على تهميش هذه الأحداث المهمة, لننقلها مع أخبار الحوادث الأرضية, والكوارث الجوية, أو مع أخبار المال والاقتصاد, أو مع وقائع الندوات والمؤتمرات, وكأن أحداث غزة جزء لا يتجزأ من زحمة هذه الأخبار والأحداث العارضة؟!!
لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قوم حفاة عراة, فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى بهم من الفاقة, فلم يتأخر لحظة عن نجدة هؤلاء, بل اغتم لهذا الواقع, فدخل ثم خرج, ثم استخدم أبرز وسيلة إعلامية كانت موجودة في ذلك العصر, وهي حشد الناس بالأذان, ثم قرع مسامعهم بالخطبة, وهي أبلغ قناة إعلامية يمكن توظيفها في ذلك العصر, فأمر بلالاً, فأذن, وأقام, فصلى, ثم خطب على الهواء مباشرة, واعظاً لهم قائلاً: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة.., ثم حفزهم على الصدقة بقوله: تصدق رجل من ديناره, من درهمه, من ثوبه, من صاع بره, من صاع تمره, حتى قال: ولو بشق تمرة) فأينع هذا الإعلان النبوي, ثم أثمر هذا الإعلام الحي المباشر في إلهاب العواطف, وتحفيز الطاقات نحو البذل والصدقة, ولذا جاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها.., فتصدق بها, ثم ترك هذا الأسلوب العملي بصمته في نفوس الناس, حيث تتابعوا على الصدقة, حتى اجتمع في لحظات كومان من طعام وثياب, حتى تهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة, ثم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها, وأجر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن سن في الإسلام سنة سيئة, كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده, من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً).
إن أهلنا المحاصرين في غزة كما هم إخواننا في الدين والعقيدة, فهم أيضاً خط الدفاع الأول في وجه اليهود عن جميع الدول العربية المجاورة, ولهذا فإن من أبسط حقوقهم علينا أن نقف معهم, وألا نخذلهم بتباطئنا عن نصرتهم, ولو بنقل واقعهم عبر الفضائيات؛ ليقف معهم كل الشرفاء في هذا العالم.
ولا ريب أن الوقوف معهم لا يكون بالنقل الفضائي وحسب, ولكن بتقديم يد العون والمساعدة لهم, عبر المساعدات الدوائية والغذائية؛ لنساهم - ولو بجهد المقل - بغذاء يقيم الصلب, ودواء يعالج المرض, ولباس يقي البدن, وكم يفرح المسلم ويسعد وهو يرى القوافل الغذائية والدوائية تتقاطر إلى رفح, ولعل الله تعالى أن يخفف عن المسلمين الغلاء بهذه المساعدات المتواضعة, ولا ندري ربما كان من أسباب التضخم الذي يمر به العالم منذ شهور, هو هذا الصمت العالمي أمام الحصار والتجويع الذي يمارس في غزة منذ سنة أو أكثر, والله تعالى إذا أراد أمراً قيض له من الأسباب ما يهيئ وقوعه!! وقد اكتوي بنار هذا الغلاء أكثر دول العالم, ناهيك عن أزمة الرهن العقاري التي تدفع بالاقتصاد الأمريكي نحو الركود, والتي ألقت بظلالها أيضاً على كثير من الأسواق العالمية, وأول من اكتوى بنارها الولايات المتحدة التي كانت وما زالت تدعم دولة إسرائيل في ظلمها وجبروتها ضد إخواننا في فلسطين, وقد نقلت بعض الفضائيات صوراً لأعداد كثيرة من المواطنين الأمريكان, وهم ينصبون الخيام كرمز للسكنى! بعد تعرضهم لأزمة الإسكان التي حالت دون قدرتهم على السداد, وهي صورة حية تذكرنا باللاجئين الفلسطينيين وهم يسكنون الخيام في الملاجئ!! ولا نقول هذا من باب الشماتة, عياذاً بالله, بل من باب التأمل في سننه الكونية, ولن تجد لسنة الله تبديلاً.