قناتا "الجزيرة" و"العربية"... قيادة للقاطرة العربية المعطلة!
شهد الفضاء العربي طفرة قنوات فضائية كان أكثرها الغث وقليل القليل منها سمين. هذه الطفرة الإعلامية العربية تحديداً في جميع المجالات تجربة كان لا بد من المرور بها، ولا تزال في أطوارها الأولى بما تحمله من تغيرات هيكلية في جميع البني التحية على مختلف المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي. الجدير ذكره أن كل تلك المستويات تشهد حالات مخاض تختلف في حدتها وفي طريقة تغييرها وأعتقد أن القادم أكثر وأشد حدة. ولكن المؤكد أن الإعلام العربي يمر بمرحلة مفصلية سواء فيما يخص المحتوى أو الطريقة، وقد يخرج قريبا عن قدرة المؤسسات الإعلامية على إدارته بشكل أو بآخر ليصبح تحت إدارة المشاهد والقارئ والسامع نفسه.
ولكن أكثر الحالات استشهادا في مضامينها المختلفة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية على المستوى العربي كان في حالتي قناتي "الجزيرة" و"العربية" اللتين حققتا طفرة إعلامية خلال مدة زمنية قصيرة من عمريهما الإعلاميين حيث لم تشهد التجربة العربية مثيلا لها. ورغم أن التجربتين منفصلتان إلا أنهما مرتبطتان ارتباطا وثيقاً.
قناة الجزيرة التي أنشئت أولا كان أول بث إعلامي لها في عام 1996، حيث ومن دون مقدمات وجدنا قناة إعلامية سجلت حضورا "قوياً" على الساحة الإعلامية العربية، شكلت تحولا كبيرا في الإعلام العربي سواء من حيث أراد مؤسسو القناة ذلك أم لا. وقد كشفت القناة العطش العربي لقناة تكون بالمستوى الذي ظهرت به قناة الجزيرة، رغم أننا قد نختلف معها في طريقة التركيز على قضايا معينة وتغييب قضايا أخرى مما يعنى الانتقائية المقصودة! وهو أمر أعتقد أنه موجود في كل وسائل الإعلام العالمية، حيث نجد أن الإعلاميين أنفسهم يصنفون وسائل الإعلام بشكل أو بآخر أو أنهم يحسبونها على تيار دون آخر بما في ذلك الإعلام الغربي والأمريكي تحديداً، مع استثناء تجربة قناة بي بي سي BBC.
أما قناة العربية التي تعد حديثة عهد نسبيا مقارنة بقناة الجزيرة، فقد بدأت بثها في آذار (مارس) 2003، أي أن عمرها الإعلامي لا يتجاوز الخمس سنوات، ولكن المميز فيها أنها بدأت من حيث انتهى الآخرون وبالتالي صنعت منافسة قوية مع قناة الجزيرة منذ اليوم الأول لبثها. ورغم أن هناك من يرى أن فكرة قناة العربية جاءت كرد فعل على وجود قناة الجزيرة بعد نحو سبع سنوات من بدء بثها، إلا أن المشاهد العربي بلا استثناء هو المستفيد الأول من هذه المنافسة التي شهدت فترات شد وجذب، ولا يمكن في هذا المقام إغفال التضحيات التي قدمتها القناتان في تغطيتهما الإعلامية وصلت إلى مستوى قتل مراسلي القناتين كما حدث في العراق.
ومسقبلا يمكن القول إن القناتين أمامهما تحد حقيقي لتعميق التجربة ولمواكبة الأحداث وقيادة الوعي العربي في شتى شؤون الحياة إلى مستويات نحن في أمس الحاجة إليها. وأشدد على قيادة الوعي العربي حيث إن رفع الثقافة العربية على جميع المستويات وفي مختلف الجوانب هو ما نحتاج إليه في هذه المرحلة. فحتى يمكن لنا الإصلاح الذي بدأ بحكم الصيرورة وليس بحكم الإرادة العربية لا بد لنا من وعي حقيقي على المستوى السياسي بمعرفة الحقوق والواجبات، وعلى المستوى الاجتماعي عن طريق الارتقاء بالفكر العربي إلى مستويات نحتاج فيها إلى الابتعاد عن الكثير من المسلمات التي أكل عليها الدهر وشرب والكثير من المعتقدات التي ليست حتى من ديننا ولكنها العرف والعادة. كما نحتاج إلى دعم وتطوير مؤسسات المجتمع المدني ذات التوجه المعلن والأهداف الواضحة، وكذلك زيادة الوعي على المستوى الاقتصادي ومواكبة الإصلاحات الاقتصادية للتعامل مع التحديات الفردية من تطوير لآليات الادخار والاستثمار الفردي والمجتمعي وكيفية إدارة الأموال العامة والخاصة وزيادة الشفافية التي لا تزال متدنية المستوى والمضمون وكذلك تطوير مبدأ المسألة وكبح جماح الفساد المالي والإداري في الوطن العربي عبر كشف الحقائق وزيادة الوعي النخبوي والشعبي.
قد يقول قائل: هل يمكن لقناتين القيام بكل ذلك؟ أقول نعم إذا ما تضافرت الجهود وتوافرت المهنية الإعلامية، فإن الإعلام اليوم يقود أمما كاملة ويجلى صورا ويكفينا تجربة أبو غريب والتجارب المشابهة من الإعلام الغربي عموماً!
وفي الختام يبقى التحدي الحقيقي أمام القناتين كقائدتين للإعلام العربي هو إما الاستمرار في الارتقاء وقيادة القاطرة العربية من خلال أسلوب الطرح وعمقه على افتراض أننا بدأنا بالصعود أو أن تنجرا إلى مستويات الثقافة السائدة على جميع المستويات (الجمهور عاوز كذا) وهو منزلق يعنى أن الغرض من وجودهما انتفى!!! كلي أمل أن تقود قناتا "الجزيرة" و"العربية" الإعلام العربي عبر أشواكه الحمراء الكثيفة ما بين إعلام حر يفهم الحرية على أنها إسفاف (هز يا وز)، وإعلام متقوقع على نفسه إلى درجة أنه يطبق عليه النظرية الشيوعية المشهورة للإعلام، أقول كلي أمل أن تقودنا القناتان وغيرهما إلى إعلام ذي رسالة ومسؤولية اجتماعية واضحة للأمة وهي في أمس الحاجة للقيادة الإعلامية الرائدة.