هل أنت نبيل؟!
سؤال مستفز، ومن تراه يقبل التشكيك بنبله فما بالك بخلوه منه؟ ذلك أن النبل خصلة عذبة الرنين تشير إلى الشرف في أبهى تجلياته فهي تتويج نوعي للقيم الإنسانية العظيمة كالشجاعة، الكرم، المروءة، والشهامة، علماً أن عدم بروز النبل في شخص لا ينفي عنه المناقب الرائعة الأخرى، بل إن النبل قد يفاجئنا أيضا في شخص نعتبره دعيا لا نرتاح إليه ولا نطمئن لصحبته. فضلا عن أن خصلة النبل، في الغالب، لا تعبر عن نفسها ولا تسفر عن وجهها إلا في الأوقات الحرجة والمواقف الإنسانية العصيبة:
الكاتب وليام سومرست موم قدّم نموذجا رائعا للنبل في قصة جميلة تتحدث عن مسافر إنجليزي إلى كوبا على متن باخرة حصل فيها على حجرة بسريرين، شريكه فيها إنجليزي مثله يدعى ماكس كيلادا.. نفر منه من أول لقاء فقد وجده فضوليا مهذارا، كثير الاعتداد بنفسه، متطفلا، يدس أنفه في كل شيء، كما لاحظ أنه كثير الاختلاط بالناس، لم يمض ثلاثة أيام حتى تعرف إلى ركاب الباخرة، يدعي المعرفة والمهارة، يدير كل الألعاب حتى بات مكروها من الجميع، صاروا يتندرون عليه: "الرجل الذي يعرف كل شيء" ـ وهذا عنوان القصة ـ وكان كيلادا يعتبر ذلك إطراء، وإذا لم توافقه على ما يقول يشعر أن كبرياءه جرحت.
ذات مساء دار الحديث على العشاء حول اللآلئ وعن توصل اليابانيين إلى صناعته، زعم كيلادا أن لا أحد يعرف أكثر منه في موضوع اللآلئ وأن هذه مهنته، وأنه ذاهب لليابان للوقوف على هذه التجارة الجديدة، ثم أجال بصره في المائدة، وأشار إلى عقد يزين عنق زوجة قنصل أمريكي يعمل في كوبا، جاء ليصحبها معه إلى هناك بعد أن تركها في نيويورك لمدة عام.. قال كيلادا: إن تلك لآلئ حقيقية ولو بيعت لساوت 30 ألف دولار، لكن القنصل استخف بكيلادا، موضحا أن زوجته ابتاعت هذا العقد بـ 18 دولارا من مخزن بسيط قبل مغادرة نيويورك، فزعق كيلادا: (هذا هراء، إنه ليس عقدا حقيقيا فحسب، بل من أحسن عقود اللؤلؤ). تحداه القنصل: هل تراهنني بـ 100 دولار على أنه عقد زائف؟ فوافق كيلادا بحماس!!
تدخلت زوجة القنصل محاولة إيقاف الرهان، لكن كيلادا طلب إليها أن تناوله العقد ليتفحصه ولو اتضح له أنه زائف فسيعطي لزوجها 100 دولار. ترددت السيدة، فبادر زوجها لفك المشبك وناول العقد لكيلادا الذي أخذ يتفحصه تحت عدسة مكبرة، ثم أشرقت ملامحه بابتسامة الظفر، وهو يعيد العقد إلى القنصل وكاد يتكلم، لكنه لمح شحوبا مريعا في وجه السيدة كمن سيغمى عليها، كانت تنظر لكيلادا بعينين كلهما توسل بائس، توقف كيلادا فاغرا فاه، سيطر بجهد على نفسه، قال: لقد أخطأت.. كان التقليد متقنا.. ثم دس يده في جيبه وناول القنصل ورقة الـ 100 دولار، فأخذها معلقا: لعل هذا يعلمك درسا بألا تكون دائما على ثقة شديدة.. وانتشرت القصة في أرجاء الباخرة، صار كيلادا مثار السخرية والتهكم طوال تلك الليلة.
في الصباح رأى المسافر الإنجليزي ظرفا يدفع تحت باب الغرفة موجها لماكس كيلادا ناوله إياه، فتحه، أخرج منه ورقة بـ 100 دولار، مزق الظرف، سأله الإنجليزي: هل كانت اللآلئ حقيقية؟ قال كيلادا: لو كان لي زوجة صبية حسناء لما تركتها تقضي سنة كاملة في نيويورك أثناء غيابي في كوبا!!
كان ماكس كيلادا قد رأى ما لم يره سواه فستره. أدار ظهره ببسالة، في جهاد للنفس ضد مساوماتها ووساوسها لجلب منفعة خاصة على حساب الآخرين أو إلحاق الأذى بهم، درأ فضيحة مدوية قد يجر الكشف عنها إلى جريمة قتل قصاصا لشرف تم هدره في لحظات التباس الظروف فصعد إلى أوج النبل!
نعم.. الخيانة فظيعة مذلة، إلا أن ما حدث قد حدث، ومن ذا الذي يستطيع إيقاف مسار الأقدار؟ أمثال ماكس كيلادا، ممن يملكون قلوبا مفعمة بالإنسانية، يراهنون على أن يكون مثل هذا الموقف (طهورا) يجب ما قبله.. إنه رهان قدسي صامت مع ملكوت الروح منحاز للخير، مقطوع الصلة بما عداه، دون تظاهر بالنبل.. وذلكم هو النبل.