التي لا نظير لها

هكذا هي في نظر أبيها ذو الفقار علي بوتو، وقريبا من ذلك هي عند أنصارها والمعجبين بها، لكن بالتأكيد ليست الراحلة، بي نظير بوتو، امرأة لا نظير لها عند خصومها السياسيين، أما عند أعدائها فهي شخصية لا يطاق وجودها أو حضورها ولا حتى صوتها فأخمدوه!!
ماتت هذه المرأة الليبرالية الأرستقراطية المتعلمة المتحضرة السلاح ذاته الذي ماتت به مثيلتها في الجارة اللدود الهند، السيدة أنديرا غاندي، صرع رصاص متطرف إسلامي بي نظير بوتو فيما صرع أنديرا غاندي رصاص متطرف آخر هو حارسها السيخي.
التطرف هو التطرف لكن الفرق أن الهند كانت قد أرست نظامها الديمقراطي وحازت لقب أعرق الديمقراطيات في العالم الثالث، أما باكستان فرغم التطلعات النبيلة لمؤسسها، عراب انشقاقها عن الهند (محمد علي جناح) في أن يمثل التجانس الإسلامي لمقاطعاتها لاصقا روحيا، فقد بقيت في مستنقع العالم الثالث، تلاعبت بها أطماع العسكر وشهوات الطائفية المذهبية الحنفية والشيعية ثم الاتجاهات المتزمتة التي واكبت فترة ضياء الحق حتى فرخت القاعدة وطالبان وأشباههما فاختلط حابل العسكر بنابل التطرف الديني وبلغت باكستان مرحلة التراق!!
لقد امتلكت الراحلة بي نظير بوتو شخصية آسرة (كاريزما)، فمثلت عند أنصارها الملاك المنقذ، ونظر إليها آخرون كسياسية ماهرة. ومع أسفي العميق لرحيلها الفاجع، وتقديري لنضالها وبسالتها وتعاطفي الشديد مع ما أحاق بأسرتها وذويها وشعبها من مأساة. فقد بدت لي بي نظير منذ اللحظة التي وطئت فيها قدماها باكستان سيدة مندفعة كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة، احترت في تفسير ذلك السلوك من سياسية يُفترض فيها أن تكون أكثر دراية، خبرة، معرفة وتشخيصا لمكونات المزاج الشعبي في بلادها، خصوصا في الوقت الراهن. فالشارع الباكستاني في حالة غليان، غير أنها مضت، غير هيابة ولا مبالية، في الظهور العلني أمام الجماهير بحماس حجب عنها حقل الألغام الذي جاءت لتمشي عليه: فكيف فاتها ذلك؟!
كما سلت بي نظير سيفها في خطبها، في استعداد يشبه استعداد أبطال التراجيديا اليونانية، راحت تلوح به في وجه المتطرفين متوعدة مهددة فلم يمهلوها هذه المرة، وهي التي نجت من كارثة 19 تشرين الأول (أكتوبر) التي راح ضحيتها 150 غلبانا باكستانيا جاءوا ليهتفوا لعودتها فتناثرت أشلاؤهم بانفجار غادر، فكيف فاتها ذلك؟!
كان عليها في الحالة الأولى أن تحاذر الظهور العلني، أن تكتفي بقيادة حملتها الانتخابية وإلقاء خطبها من خلال التلفزيون، الإذاعة، الصحافة والمنشورات، فقد مثل بروزها العلني لزبانية الموت والدم تصرفا استفزازيا، سهل لهم ترصدها والقضاء عليها، فكيف فاتها ذلك؟!
وكان عليها في الحالة الثانية أن تتحاشى الوعيد والتهديد في خطاباتها ضد الغلاة المتزمتين المتطرفين وهم حجم لا يستهان به وأن تجنح إلى السلم والمهادنة، وتركز على تحسين الوضع الاقتصادي، الاستقرار الاجتماعي، الوحدة الوطنية، التآلف، المحبة، الأخوة وأن تعزف على المبادئ ذاتها التي أقام عليها والدها حزب الشعب (المأكل، الملبس، المكان)، فهي قواسم إنسانية تزغرد لها الجوارح والقلوب، فكيف فاتها ذلك؟!
هل هذا تأبين معاكس لزعيمة محبوبة من أسرة عريقة؟ بالتأكيد ليس الأمر كذلك، لكني أتحسر، كيف بها وقد كانت تمتلك تلك الكاريزما العالية: الوعي، الثقافة، العلم، المعرفة، الثروة، وتاريخ أسرة عريقة تمرست بالسياسة التي طحنت أباها وأخويها وتمتلك علاوة على كل ذلك تجربتها الشخصية في الحكم مرتين، وسنوات تأمل ومراقبة في المنفى لأحداث بلادها والعالم.. رصيد زاخر من الخبرة كفيل باستنفار فطنتها وحنكتها السياسية، نحو الروية والتريث وعدم إلقاء النفس في التهلكة والتلويح بسيف الانتقام؟ فكيف فاتها ذلك؟!
هل ذهبت بي نظير ضحية اندفاعها وتعطشها للسلطة؟ في العالم المتقدم لا يعتبر ذلك مثلبة ولا هو مصدر تهديد لصاحبه، لكنه في بلد مملوء بالأفخاخ كبلدها تطحن الأعمال الانتحارية فيه أجساد الأبرياء كل يوم يعتبر كذلك.. ألا ليتها يممت نظرها شطر القامة السامقة لنيلسون مانديلا، فلو خرج من سجنه سالاً سيفه لإزهاق العنصريين لما أشرقت شمس الحياة الكريمة في بلاده، ولظلت دولة جنوب إفريقيا تخرج من خندق دموي لتغطس في خندق آخر.. كانت حكمة الصفح أشد مضاء من سيف الانتقام.. والراحلة بي نظير بوتو كانت تستحق مجدا كمجد مانديلا لو غيرت اتجاه الخطاب!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي