الأمن الغذائي أم الأمن المائي .. أيهما أهم؟

الأمن الغذائي أم الأمن المائي .. أيهما أهم؟

عندما أرست حكومة المملكة، رعاها الله، دعائم التنمية الشاملة قبل عقود مضت، بتأسيس البنية الأساسية من طرق واتصالات ومحطات طاقة وتأهيل كوادر كانت تستهدف اختصار الزمن وتحقيق نقلة نوعية في قطاعات الاقتصاد الوطني، ومن بينها القطاع الزراعي الذي كانت أمامه تحديات لا تماثلها ما لدى الدول الأخرى من تحديات فالموارد محدوده والخبرات ضعيفة وبالتالي فإن عملية التنمية في هذا القطاع كانت بدايتها عند مستويات أقل بكثير مما يمكن أن تبنى عليه الطموحات والتطلعات، إلا أنه وبعون الله تعالى ثم بالرؤية الثاقبة والعزيمة والإصرار لولاة الأمر في بلدنا الغالي وبجهود المخلصين من أبنائه تحققت إنجازات شهد لها البعيد قبل القريب وخلال مدة من الزمن تعد قياسية فكان من ثمار ذلك حجم واسع من منتجات وسلع غذائية أساسية تدخل ضمن صميم الحاجات الاستهلاكية الضرورية للإنسان ومن باب الاستدلال على ذلك تأمين احتياج سكان المملكة من المنتج الغذائي الأول القمح بمعدلات إنتاجية عالية تضاهي معدلات الدول الأخرى الغنية بالموارد والإمكانيات، وفي إنتاج الألبان ومشتقاتها تحققت معدلات نمو مطردة حتى أمكن تغطية الطلب المحلي مع التفوق النوعي في مجالات الجودة والتنوع إلى جانب التميز والكفاءة في آلية البيع والتوزيع، كما أن إنتاج الدواجن والبيض الذي يشكل أحد أهم مصادر التغذية فقد شهد هو الآخر تطورات مهمة على مستوى الإنتاج كماً ونوعا، وكذلك التمور فقد تنامي إنتاجها ليبلغ مليون طن هذا بالإضافة إلى المنتجات الزراعية الأخرى من الخضار كالبطاطس والبصل وغيرها.
إن أهمية القطاع الزراعي واستمرارية إنتاجه لا خلاف عليها ولا جدال إذ لا يمكن تصور حالة من الاعتماد الكلي على المصادر الخارجية في تأمين السلع الغذائية والزراعية وإلا أصبحت البلد بسكانها مرهونة لتأثيرات السياسة والاقتصاد وتقلبات الإنتاج في بلدان المصدر وانعكاس تذبذبها على الأسواق المحلية والأوضاع الاجتماعية، وهذا ما تنبهت له القيادة الحكيمة لهذا البلد وعملت على التحوط والحذر منه بالعمل ما أمكن على إبعاد مؤثرات المواقف السياسية أو تدني مواسم الإنتاج عن ضمان تدفق السلع وسد حاجة الاستهلاك الوطني من الغذاء، وما أشرنا إليه يمثل أهم جوانب الأمن الغذائي للدول لكونه يمس سيادتها واستقلالية قرارها.
إن الأصوات الداعية إلى إيقاف الزراعة لمبررات تتعلق بالمحافظة على المياه الجوفية تندرج تحت رأي يحمل نوعا من الإقصاء للرأي الآخر لكونه لم يتناول القضية بجميع أبعادها فهي ذات علاقة بمشاريع استثمارية تتجاوز مبالغها البلايين من الريالات، كما أنها تتعلق بالكثير من الخبرات التي اكتسبت عبر الفترة الماضية الكفاءات الوطنية التي تم تأهيلها للعمل في النشاطات الزراعية المختلفة وكل ذلك يشكل جزءا مهما من الثروة الوطنية التي ينبغي المحافظة عليها وزيادة تطويرها بما يحسن من أدائها وأداء القطاع الزراعي ودعمه، ثم إن المشاريع الزراعية هي عامل مهم في إتاحة فرص العمل والعيش الكريم لشبابنا الذين تتزايد أعدادهم عاما بعد عام وتعمل على الحد من الهجرة الداخلية إلى المدن بحثا عن العمل، كما أنها كانت ولا تزال سببا رئيسا في استقرار أسعار السلع الزراعية للمواطنين بشكل عام.
ولقد جاءت الزيادة المفاجئة والكبيرة في أسعار القمح والشعير أخيراً في الأسواق العالمية لتشكل سبباً آخر يرجح كفة الاستمرار في إنتاج السلع الزراعية الرئيسية محلياً وذلك بعد أن بلغت أسعار القمح 1500ريال/للطن، في حين ما زالت أسعار المؤسسة العامة للصوامع للقمح المحلي
900 ريال/للطن بعد حسم نسبة الشوائب والزكاة والنقل، وهذا يدحض ما كانت تحتج به بعض الآراء الداعية للحد من الزراعة لإمكانية تأمين محصول القمح من الأسواق الخارجية بأسعار تقل كثيرا عن السوق المحلية، كما أن السوق توحي بارتفاعات متزايدة لأسعار الحاصلات الزراعية بسبب تقلص المساحات الزراعية من جهة ومن جهة استخدام بعض المحاصيل في إنتاج الطاقة البديلة البترول، وهنا أود أن أشير إلى أن أسعار شراء القمح من المزارعين أصبحت غير مجدية تماما في ظل الارتفاع المستمر في مدخلات الإنتاج، كما أن هناك مؤشرات عن عزوف كثير من المزارعين بالتوقف عن زراعة محصول القمح ما لم يتم رفع قيمة الشراء من الصوامع لأسعار مجزية تقابل الزيادة المطردة في تكاليف المدخلات ومصاريف النقل.

وفي الجانب الآخر ومع التسليم بأن لا حياة بدون ماء وأن ذلك يحتم وجود استراتيجية للأمن الغذائي في المملكة تحت إشراف الخبراء والمختصين في هذا المجال والتي جاء تخصيص وزارة مستقلة للمياه خطوة أساسية أولى في هذا الاتجاه، ولكن الأهم ما يتبع ذلك من خطوات سواء على صعيد الدراسات أو الخطط (حيث حتى الآن لا نعلم كم هو مخزوننا المائي) أو التنفيذ فيما يتعلق بتنمية مصادر المياه سواء الخاصة بالاستهلاك الآدمي أو الخاصة بالزراعة ودراسة وتحديد البدائل المتاحة وتوسيع أفق البحث هنا يعد ضروريا، فالناتج المائي لما أنشئ من سدود للفترة الماضية مازال محدود الفائدة، ومن الخطوات المطلوبة أيضا العمل السريع في تحسين كفاءة شبكات توزيع المياه، وهي بلا شك تستلزم موازنات كبيرة إلا أن المستهدف يبرر اعتماد هذه الموازنات وإنفاقها، فما ننفقه اليوم سيكون أقل كلفة مما ينفق في الغد بسبب أن الزيادة السكانية مستمرة بمعدلات عالية ومدننا تنمو باطراد تبعا لذلك، إن استراتيجية للأمن المائي لابد أن تتناول بالدراسة كميات المخزونات المائية سواء منها الناضبة أو القابلة للتعويض باستخدام التقنيات الحديثة المتوافرة في أنحاء العالم، وكذلك دراسة الجانب المتعلق بتكاليف استخراج ومعالجة المياه الجوفية وإمكانية صلاحيتها لكافة الاستخدامات، وهذا الجانب فيه نقص كبير من حيث المعلومات الدقيقة والموثوقة، ولا أستبعد تماما أن تفوق هذه التكاليف حجم ما تنفقه الدوله على مشاريع تحلية المياه، وليس من الحكمة أن يتم رسم السياسة المائية استناداً إلى مرئيات نظرية تصدر من جهات ليست ذات اختصاص نجد الكثير منها لا يخلو من المبالغة غير المعقولة، واستخدام جمل إنشائية تحمل طابع التأثير المبالغ مثل كيلو القمح يحتاج إلى كذا لتر ماء والمشروع الفلاني يستخدم كمية من المياه تعادل كمية استهلاك المدينة الفلانية وقس على ذلك.
إن قصر النظر إلى مشاريع الإنتاج الزراعي على أنها قطاع مهدر للمياه فيه قصور وتجن وذلك للإدراك التام لمن يعمل في هذا القطاع بأن ديمومة النشاط الزراعي مرتبط بشكل كلي ومباشر بتوفر المياه ومن هنا فإن الشركات الزراعية التي تمثل العمود الفقري للقطاع الزراعي في المملكة لا تكل جهودها ولا تبخل في الاستثمار في الكثير من مجالات ترشيد استخدام المياه، وقد حققت في هذا الجانب الشيء الكثير، وعلى سبيل المثال محصول القمح تم التوصل بالأبحاث إلى إنتاجية بكميات أكبر بمياه تقل عن نصف ما كان يستخدم قبل 15 عاما وهي تسعى للتوعية وتعريف الآخرين بالتقنيات والتجارب المطبقة لديها لتعميم الفائدة لتأتي النتائج المتحققة من وراء ذلك أفضل وأكبر.
مما تقدم نخلص إلى القول إن الأمن الغذائي والأمن المائي في المملكة لا يمكن البحث فيهما والتعامل معهما كالضدين غير القابلين للالتقاء أو إصدار الحكم المطلق بعدم إمكانية تحقيق التوافق بينهما، بل يجب أن يؤخذ كلا الموضوعين على نفس القدر من الأهمية والمراعاة، ولا بد من إيجاد استراتيجيات طويلة الأمد لكل من الأمن الغذائي والأمن المائي ذات مرجعية علمية يمكن من خلالها الاعتماد على سلامة الخطط والنتائج وكفيله بتحقيق التوازن المستمر بين الاحتياج والغذائي والاحتياج المائي.
سدد الله خطى حكومتنا الرشيدة وشد أزرها بتكاتف شعبها الوفي.

الرئيس التنفيذي للشركة الوطنية للتنمية الزراعية (نادك)
عضو اللجنة الزراعة – الغرفة التجارية الصناعية الرياض
[email protected]

الأكثر قراءة