رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


اهربوا من النقود!

[email protected]

تذكرني التجاذبات الراهنة حول مسألة رفع الرواتب، بالوضع الذي ساد الفكر الاقتصادي قبل ظهور نظرية "جون مينارد كينز " الاقتصادية عام 1936م. كان السائد في الفكر الاقتصادي حينها هو ترك علاج التقلبات في النشاط الاقتصادي (رواجا أو كسادا) لعوامل السوق دون تدخل من قبل الحكومة. وكان رد كينز الحازم، الذي اعتبر ثورة في الفكر الرأسمالي حينها، إن هذه حلول طويلة الأجل، وفيه سنكون كلنا من الأموات!!
ما يعاني منه الناس اليوم يحتاج إلى حلول عاجلة، وعلاج مسألة تدهور مستوى معاشهم لا يقبل إرجاء ولا تأجيلا. فمنذ نهاية الحرب العالمة الثانية لم ينخفض المستوى العالمي للأسعار، ولن ينخفض! ولا يصح أن نترك الفارق بين تكاليف المعيشة ومستوى دخول الناس يتسع أكثر، لأن العلاج حينها سيكون أصعب وأقل فاعلية.
ولذا كانوا يترقبون بتحفز وقلق بالغ الإعلان عن الموازنة الحكومية الجديدة، لمعرفة القرارات الاقتصادية والسياسات المالية والنقدية والتجارية التي ستنتهجها السلطات الاقتصادية لمعالجة التضخم كبحا وتعويضا، والبطالة تخفيضا وتعويضا، مع المحافظة في الوقت ذاته على برنامج الإنفاق الحكومي اللازمة لتسريع وتيرة التنمية وفك الاختناقات في القطاعات الرئيسة في الاقتصاد، وبالذات في قطاع التنمية البشرية تأهيلا وتدريبا، وقطاع الإسكان تنظيما وتمويلا، وقطاعات التعليم العالي والصحة والخدمات البلدية ومشاريع البنى التحتية توسيعا وتطويرا.
لا أحد يمكن أن يجادل في أن اقتصادنا اليوم غير اقتصادنا قبل 30 أو 40 سنة. وأن هناك إنجازات كبيرة تحققت. لكننا نستطيع أن ننجز أكثر من ذلك بالنظر لضخامة الموارد واتساع الفرص الاقتصادية. كان في إمكاننا وضع هدف رقمي قابل للقياس لخفض درجة اعتمادنا على دخلنا من النفط، وخفض اعتمادنا على الاستيراد، وكذلك رفع درجة مساهمة الإنفاق الحكومي الرأسمالي في توليد الوظائف المناسبة لمعظم العاطلين عن العمل. هذا الإنفاق الذي أصبح في السنوات الأخيرة لا يوفر فرصا للعمل حتى للمقاولين المحليين بسبب العقبات الإدارية في بعض الأجهزة الحكومية والقيود التنظيمية على الاستقدام التي سنتها وزارة العمل.
نحن إزاء تحديات متجددة! ففيما يتعلق بالتضخم، فإن كل المؤشرات الاقتصادية الداخلية والخارجية تدل على أن للغلاء بقية! خاصة أن أسعار النفط مرشحة لمزيد من الارتفاعات. وعليه فإن متوسط أسعار السلع والخدمات سيرتفع بما لا يقل عن 20 في المائة خلال العام المقبل.
وهذا التحدي يتطلب معالجة غير تقليدية سواء لإدارة وضعنا الاقتصادي العام، أو لعلاج مشكلتي التضخم والبطالة بشكل خاص. لقد أصبح من مقتضيات الضرورة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية معالجة تدهور مستوى معيشة الناس، وبالذات من كانت دخولهم أقل من بضعة آلاف ريال. التضخم المستورد علاجه إعادة النظر في سعر صرف الدولار، والتضخم المحلي علاجه ضبط الإنفاق الحكومي وعرض النقود وتحسين القوة الشرائية للناس. وفي ظل استمرار قناعة المسؤولين في مؤسسة النقد بتثبيت سعر الريال ناهيك عن ربطه بسلة عملات، على الرغم من تغير دواعي هذا التثبيت والربط، فإننا بحاجة عاجلة لحزمة من الإجراءات الفاعلة وعلى رأسها إعادة النظر في الرواتب، وكسر الاحتكارات، والقضاء على الفساد، وخفض مختلف الرسوم، وتبني مزيد من برامج التمويل والإعانات ( كنت أفضل أن يكون برنامج الإعانات قائما على القسائم بدلا من الإعانات المباشرة. فهذا الأسلوب يستفيد منه المحتاج وغير المحتاج. وإن تركز الإعانات على السلع والخدمات التي تقتطع نسبا كبيرة من دخول الناس، كالخدمات الصحية والإسكانية).
أما الإدعاء أن زيادة الرواتب قادت لارتفاع الأسعار بما يفوق زيادة الرواتب، فيحتاج إلي تيقن وإثبات. فهذا الربط المباشر غير مسلم به على علاته، لأن أسواقنا تنافسية بشكل عام ولا يستطيع التجار رفع الأسعار إلا إن حدث اتفاق وتواطؤ بينهم. كما أن الأسعار كانت سترتفع لا محالة، زيدت الرواتب أم بقيت على حالها، بسبب استمرار ارتفاع أسعار النفط التي رفعت تكاليف الإنتاج والشحن في الخارج، فاستوردنا التضخم الذي زاد من سعيره تدهور قيمة الريال. وعلينا أن نتذكر أن أسعار بعض مواد البناء والأدوية ارتفعت قبل زيادة الرواتب. كما أجبرت المنافسة بعض شركات الألبان تخفيض أسعارها في وقت سابق بسبب قوة المنافسة. واليوم أجبرت الظروف بعض البنوك على رفع رواتب موظفيها خوفا من تسربهم بسبب المنافسة. وقد تقتفي أثرهم بعض الشركات الكبرى الأخرى للسبب نفسه. ولكل ذلك، عندي إحساس قوى أن خادم الحرمين الشريفين، أيده الله، ما زال يدرس بعض السياسات والخيارات اللازمة لمواجهة مشكلة الغلاء.
لكن على الناس أن يدركوا أن الحكمة تقتضي، في مثل هذه الظروف التضخمية البائسة، تقنين استهلاكهم وضبط إنفاقهم. وعليهم أيضا عدم الاحتفاظ بمدخراتهم في شكل نقدي، بل تحويلها نحو الأصول العينية والمالية ما استطاعوا لذلك سبيلا، من أجل المحافظة على قيمتها. لكن عليهم أن يحذروا من الشراء في المواقع والمخططات التي تضاعفت أسعارها إلى مستويات غير منطقية ولا مبررة من الناحية الاقتصادية، فالغالي لا يباع مرتين. كما عليهم أن يحذروا من الشراء بالدين مهما كانت المغريات، إلا أن كان ذلك مؤسسا على تقدير سليم للمخاطر ودراسة واعية للجدوى الاقتصادية، وخبرة عقارية كافية!
لقد حذرت مبكرا عام 2005م من خطورة ما كان يجرى في سوق الأسهم، ولم يجد تحذيري حينها آذانا صاغية، لأن الناس كانوا أسرى سحر تلك الفقاعة. وها أنا أكرر تحذيري للناس من مغبة فقاعة العقار في بعض المواقع! وعلينا بدلا من السماح للمتطفلين العقاريين بتضليل الناس وإيهامهم بفائدة شراء أراض بعيدة عن العمران والخدمات، بدعوى قربها من مشاريع مستقبلية، أقول بدلا من كل ذلك، علينا تبني مشاريع عقارية متكاملة قائمة على أسس سليمة لإعادة تعمير العشوائيات داخل المدن، ثم دعوة الناس للإسهام فيها، كما فعلوا في ماليزيا. فهذا أجدى وأضمن لحماية مدخراتهم وتنمية ثرواتهم.
بلادنا تزخر بموارد هائلة وبفرص استثمارية مجدية، وبسوق ضخمة، وغاية ما نحتاج إليه هو حسن الإدارة والتدبير، وسلامة التخطيط والتفكير. كل عام والجميع في خير ورخاء وسلامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي