أخلاقيات الرأسمالية

[email protected]

يقوم النموذج الاقتصادي الرأسمالي بشكل أساسي على فكرة أساسية مفادها أن دافع المصلحة الشخصية Self Interest هو المحرك الأساسي المؤدي إلى تعظيم منافع كل من البائع والمشتري، ومن ثم تحقيق التوازن لاقتصاد السوق. أي أن المصلحة الشخصية تعد ركيزة أساسية من ركائز اقتصاد السوق لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال، وهدفها الأساسي تحقيق الكفاءة الإنتاجية سواءً في جانب الطلب أو العرض. لذلك نجد كثيراً من النقاد غير المتخصصين يتهمون النموذج الاقتصادي الرأسمالي بأنه لا يراعي الجوانب الأخلاقية وأنه ينتج مجتمعا اقتصاديا قائما على الاستغلال، حيث يستغل فيه القوي الضعيف، وتظل السيادة فيه لرأس المال والقدرة على الإنتاج المادي فقط دون اعتبار لأي جوانب دينية أو أخلاقية أو اجتماعية. وعلاوة على ذلك يتهم الأب الأول لعلم الاقتصاد الرأسمالي العالم الاقتصادي الإنجليزي آدم سميث، الذي عاش خلال القرن الثامن عشر بأنه المؤسس لهذا الفكر الاقتصادي القائم على الاستغلال، ما يؤدي إلى نسبة النتائج السلبية جميعها إلى آدم سميث نفسه.
لكن هناك الكثير من المغالطات التي يقع فيها الكثيرون عندما يبدأون باتهام النظام الاقتصادي الرأسمالي بأنه اقتصاد لا أخلاقي، إذ إن مؤسس هذا النظام، أو على الأقل مَن ينسب إليه السبق في بناء الأسس النظرية الأولى له، كان هدفه الأساسي بناء إطار نظري فلسفي أخلاقي يحكم المعاملات بين الناس. إذ إنه ظهر في وقت ساد فيه استغلال ملاك عناصر الإنتاج للطبقة العاملة وتفاقم معه هذا الاستغلال بدرجة كبيرة، والدليل على ذلك أن أول كتاب أصدره آدم سميث نفسه عنونه بنظرية المشاعر الأخلاقية of Moral Sentiments The Theory. وفي كتابه هذا يذكر سميث ما يلي (والترجمة لكاتب هذا المقال): (هناك شيء ما في طبيعة الإنسان، مهما كانت درجة أنانيته، تحمله على استغلال الآخرين لصالحه فقط وعلى حساب سعادتهم، على الرغم من أنه قد لا يجني من ذلك إلا أن يراهم على تلك الحال). ما يشير إلى أن سميث الفيلسوف كان يؤمن بشكل كبير بأن المصلحة الشخصية، التي كان أول من جعلها محور النظرية الاقتصادية الحديثة، تحتاج إلى ضبط من الناحية الأخلاقية.
لكن السؤال: ما هو السبب في تحول النظرية الاقتصادية إلى نظرية تفتقد الجانب الأخلاقي؟ السبب الأساسي يعود في ذلك إلى التحول الكبير الذي طرأ على مسار النظرية الاقتصادية خلال أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، إذ بدا أن الإنجازات الكبيرة التي حققتها العلوم الطبيعية والتي نتجت بشكل كبير عن تطور علم الرياضيات والإحصاء أغرت الاقتصاديين بشكل كبير للتحول إلى هذه النماذج الرياضية والاستعانة بها لتدعيم الإطار النظري المعتمد على الفلسفة الوصفية فقط في ذلك الحين. ومن هنا بدأ هذا التطور يأخذ شكلاً أكثر وضوحاً مع ظهور كتاب مبادئ علم الاقتصاد للعالم الاقتصادي ألفريد مارشال، الذي قدم فيه أفكاره الجديدة عن المنفعة الحدية ومنحنيات العرض والطلب وبالشكل الذي نراها عليه الآن. هذا التطور الذي طرأ على النظرية الاقتصادية والذي أدى إلى اعتمادها المتزايد على العلوم والنماذج الرياضية أبعدها شيئاً فشيئاً عن الجانب الأخلاقي الذي نشأت في الأساس لتأطيره نظرياً. ما جعل الكثيرين يعتقدون أن النظرية الاقتصادية الرأسمالية عندما أسس لها آدم سميث لم تراع الجانب الأخلاقي بأي شكل من الأشكال.
لكن مما يميز النظرية الاقتصادية نفسها وبشكلها الحالي أنها قادرة على استيعاب الكثير من التغييرات التي تطرأ عليها. فالنموذج الاقتصادي الرياضي يستطيع الأخذ في الاعتبار أي جانب أخلاقي ليضيفها كأحد العوامل المحددة للمنفعة الشخصية، شريطة أن تكون هناك وسيلة إحصائية لتقييم هذا العامل. فمثلاً ما هي الطريقة التي يمكن أن يتم بها تقييم عامل الإيثار تقييماً إحصائياًً وذلك لتحديد المنفعة التي يجنيها كل شخص من ممارسته للإيثار من خلال معاملاته الاقتصادية. أو كيف نقيم المنفعة التي يجنيها مستثمر معين جرّاء تبرعه بمشروع اجتماعي معين. ومع ذلك فتطور طرق الاستدلال الإحصائي في الفترة الأخيرة أدت إلى إنتاج نماذج اقتصادية كثيرة تراعي الجوانب الأخلاقية، ما أدى إلى تقديم منتجات مالية تتخصص في الاستثمار في قطاعات معينة تحدد بناءً على معايير أخلاقية بحتةSocially Responsible Investemnts أو حتى بناءً على معايير دينية كالبنوك الإسلامية مثلاً.
إن التطور الذي طرأ على النظرية الاقتصادية الرأسمالية أدى إلى تطورات مذهلة نراها ماثلة أمامنا كل يوم، وما ميّز هذه النظرية هي قدرتها على التغير والتأقلم لتحقيق حاجات الناس. فسابقاً كان هدف النظرية الأساسي هو تحقيق المصلحة الشخصية للأفراد دون أي اعتبار لما قد تؤدي إليه هذه المصلحة الفردية البحتة من آثار سلبية على المجتمع ككل كالتلوث مثلاً نتيجة الإنتاج الزائد الذي لا يستند إلى معايير بيئية. لكن عندما زاد اهتمام الناس ببيئتهم تطورت النظرية لتشمل هذا العامل كأحد العوامل المحددة للرفاه الاجتماعي العام. وهذا التطور أدى إلى تقديم مفهوم (رخص التلوث) Pollution Permits، الذي يتم العمل به في كثير من الدول حالياً، وفي إطار لا يتناقض مع النظرية الاقتصادية الرأسمالية، بل إنه أدى إلى تحسين تفسير النموذج الاقتصادي الرأسمالي للواقع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي