مجادلة النفس
إن القارئ لقول الله تعالى: ?ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله?. يرى في هذه الآية ذما ظاهرا لاتباع هوى النفس المخالف لمراد الله سبحانه، وأن مثل ذلك يوجب بُعداً عن مقام العبودية لله سبحانه في قوله: ?وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون?. فإن غاية خلق الإنسان هي عبادته سبحانه، وتحت هذه الغاية جملة من العبادات المتنوعة، ومن هنا فلا بد من فقه مقصد من مقاصد الشريعة الكبار ألا وهو أن الشريعة بجملتها جاءت لإخراج النفس البشرية من داعية هواها إلى مقام العبادة لله والذل والخضوع له سبحانه، فترتفع بذلك النفس البشرية عن دركات الهوى، وسقط السفل، وتكون تحت نظام وقانون يقطعها عن سلطان الهوى، فإن الهوى سلطان له درجة بالغة في الأثر إذا استحكم بزمام النفس، ولذا ترى أن الشارع لم يجعل الشريعة على مقتضى هوى النفس وشهوتها، فإن من جملة الأحكام التكليفية ما هو من قبيل الواجب المتحتم الفعل، وما هو من قبيل المحرم المتحتم الترك منعاً لانسياق النفس وراء شهواتها وأهوائها، بل إن الأحكام التخييرية التي من قبيل المباح لم تجعل في حيز الاختيار المطلق في حق المكلف، وإنما الذي اقتضى التخيير فيها هو حكم الشارع، ولذا ترى جملة من الأمور المباحة ليست على مقتضى ما تشتهيه النفوس عامة من المكلفين من تطمح به نفسه إلا منع جملة من المباحات التي لا تتوافق ومراده، ومنهم من يغلب عليه جانب اللزوم والإيجاب في ما هو من مقام المباح، فأتى الشارع بلجم هذه النفوس عن مرادها.
ومما ينبه عليه في هذا المقام أن الشريعة وإن كانت قد جاءت لإخراج النفس عن دواعي الهوى إلا أنها لم تغفل المصالح البشرية وحاجاتها، فثمت فرق بين هوى النفس المحرك لها إلى السقط والتيه، وبين حق النفس الذي مادته الخير والفطرة، إذ النفس البشرية قابلة للخير والشر، فالشريعة أتت بالمصلحة والخير للعباد ولكن تحت حدود الشريعة ومقاصدها، لا تحت رغبات النفس وشهواتها، فهي من لدن حكيم خبير ?ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير?، وتأتي هذه القراءة والنفس البشرية المسلمة في هذا الشهر تحت مناسبة -أصدق ما تكون- مفتوحة لفهم النفس وضبط نظام التعامل معها، الذي كان السالفون يسمونه المحاسبة، وكتب الحارث بن أسد رسالة في هذا، وهذا المفهوم يدخل تحته تنظيم علاقة النفس بالحياة والمال وسائر المصالح التي تلاحقها النفس، والله الهادي.