رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ليشهدوا منافع لهم

[email protected]

عندما رحل أبونا إبراهيم ـ عليه السلام ـ من الشام إلى مكة المكرمة كان قد توجه إلى هناك بأمر من الله وحكمة يريدها البارئ ـ عز وجل ـ بهدف إحداث تغييرات في هذا الكون, خاصة في شأن الاعتقاد والتوحيد. وقد رافقه في هذه الرحلة المباركة ابنه الصغير إسماعيل وأمه هاجر, وهناك وبين جبال مكة الأرض القاحلة الخالية من السكن, أمر بترك زوجته وابنه, حيث قال عليه السلام: (رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). تصف لنا هذه الآيات الكريمة الوضع الذي كانت عليه مكة المكرمة إذ لا حياة ولا نماء ولا زرع ولا سكان يقطنونها, وبهذه الكلمات ودع إبراهيم عائلته المكونة من طفل صغير وأمه, لقد تركهم في ذلك المكان المقفر وليس لهم سوى الله, لكنه لم ينسهم من الدعاء لهم بالرزق والخير وكذلك الدعاء لهم بالأنس, وذلك بتوجه الناس إلى هذا المكان. إن الهدف ليس للأكل والشرب فقط والاستئناس بالبشر الذين سيفدون لهذا المكان, بل إن الهدف عبادة الله وطاعته وشكر نعمه وهذا ما خلق من أجله الإنسان (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ومع هذه البذرة المباركة التي غرسها إبراهيم بين جبال مكة بدأت الحياة وبدأ النماء يدب في المكان حتى تحولت مكة إلى موئل ومكان للاستيطان بعد أن كانت واديا موحشا ومقفراً, ولا أثر للحياة الآدمية فيه. وتتواصل رحلة المكان عبر الزمن ويعود إبراهيم إلى مكة من الشام ليبني البيت بأمر من الله سبحانه وتعالى, ويكون محجا للناس مع أن حركة التاريخ والجهل الذي يصيب الناس بين فينة وأخرى جعل من البيت الحرام مكاناً تنصب فيه الأصنام, والأوثان, وينحرف الناس في معتقدهم حتى أذن الله ببعثه نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم, وظهر بين القبائل العربية التي استوطنت مكة وأخذ يدعوهم إلى الهدى بدلاً من الضلال الذي كانوا عليه . وهكذا تحولت مكة إلى منطلق الدعوة والتوحيد وشع نور الهداية منها إلى أرجاء العالم كافة, وتحولت القبلة إليها حتى أصبحت وجهة صلاة المسلمين (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) ومع فرض الحج على المسلمين (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام). زاد تعلق المسلمين بمكة ولو سنحت لأي واحد منا الفرصة وتحدث لأحد المسلمين الذين يعيشون خارج بلاد الحرمين للمس منهم الشوق الذي يكنونه في قلوبهم للوفود إلى مكة بغرض أداء فريضة الحج وكيف أنهم يشقون طول حياتهم ويمنون أنفسهم برحلة العمر إلى الديار المقدسة, حتى أن الواحد منهم يعمل ليل نهار, ويحرم نفسه, وأهله من كثير من الأشياء بغرض توفير ما يعينه على إتمام الحج . لقد تأملت في قوله تعالى (ليشهدوا منافع لهم) وتأملت في التحولات التي مرت بها هذه البقعة المباركة سواء ما كان منها متعلقاً بالتحولات العقدية حيث التوحيد والعبودية الصادقة لله سبحانه وتعالى أو التحولات الحضرية والاقتصادية التي مرت بها أم القرى, والمدن, والقرى المحيطة بها . إن حالة الازدهار والانتعاش التي تحياها مكة المكرمة هي إحدى ثمار التوحيد الخالص الذي دعا به إبراهيم عليه السلام حين قال (ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات) لقد جلبت الثمرات والأرزاق, وبنيت الأسواق, وأصبحت تعج بالبضائع المحلية, وغير المحلية, ونمت التجارة, وازدهرت, ومع ازدياد أعداد الحجاج وسهولة الوصول بفعل المواصلات الحديثة استدعى الأمر التوسع في المشاعر, والمرافق, وزادت الخدمات, وتطورت الأساليب بغرض التسهيل على الناس مناسكهم, والتخفيف من المشقة التي يتعرضون لها في حركتهم بين المشاعر. لقد تأملت في مفهوم المنافع الوارد في الآية الكريمة فألفيت أن المنافع كما أشاهدها ماثلة للعيان بين ناظري كثيرة منها الديني, والدنيوي, فالديني يتمثل في الخير والصلاح اللذين يصيبان الناس وهم يؤدون مناسكهم بخشوع وسكينة تظللهم رحمة الله, كما أن مظاهر الوحدة التي تجمع بين الحجاج في مظهرهم, ومشاعرهم, وهدفهم المتمثل في أداء الحج في زمن معلوم ووقت محدد, ومكان واحد, كل هذا يزيد من تماسك الأمة, والتقاء أبنائها على قلب رجل واحد ونبذ الخلافات التي قد تظهر بين المسلمين بفعل الجهل والتباعد في المسافات, وهذا يتفق مع قوله تعالي (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها).
إن شموخ المسجد الحرام بمآذنه, ونداء الحق الذي يرفع منه خمس مرات في اليوم, والليلة يجعل من هذا المكان مركزاً ليس دينياً فحسب بل حضاريا, فالعلماء, والفقهاء الذين خرجتهم مكة عبر تاريخها المديد انتشروا في بقاع الأرض حاملين معهم نور الهداية, وعلوم الشريعة التي يحتاج إليها المسلمون, وما دور المعرفة والجامعات, والمكتبات إلا ثمرة من ثمار دعوة إبراهيم ـ عليه السلام. أما الدنيوي من المنافع فكثيرة ليس لها حدود, وما توثيق العلاقات بين المسلمين وزيادة النشاط التجاري بينهم مهما اختلفت لغاتهم, أو أماكن سكناهم إلا واحدة من هذه الثمار, كم من الشركات والأفراد الذين استفادوا من شق الأنفاق, وتشييد المباني, وتمهيد الطرقات, والإسهام في بناء توسعة الحرم أو المشاركة في الخبرة والجهد في بناء جسر الجمرات, الذي أنجز جزء منه لحج هذا العام. أما المشاريع المستقبلية فكثيرة, ولعل أهم ما ذكرته وسائل الإعلام موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله على مشروع القطارات الخمسة بين المشاعر, وفي هذا المشروع في ظني فوائد جمة. إن المهارات الإدارية التي اكتسبناها سواء في تقديم الخدمات أو في النواحي الأمنية أو في إدارة جموع الحجيج التي تتحرك في مكان محدد, وزمن محدد كل هذا جزء من المنافع الدنيوية, وما أكثرها. إن قدرتنا على الاستفادة من أخطائنا, وتطوير قدراتنا, وتوظيفنا الجديد من التقنية يزيد من هذه المنافع, والفوائد, ويحولها إلى قوة للمسلمين كافة. ومع وقوف المسلمين على صعيد عرفات الطاهر في هذا اليوم المبارك يستحضر المرء هذه الصورة الجميلة صورة الوحدة, والتآلف والتآخي, ويحس بمشاعر كل مسلم أينما كان خاصة أن الأمة تمر بظرف صعب, حيث التمزق, والتناحر بين بعض أبنائها, وحيث الاعتداءات من الأعداء الذين ما فتئوا يكيدون لها ويسعون لتفتيتها وتمزيقها ونهب ثرواتها. أينما وجه الفرد نظره يجد الحروب, والتشرد والحرمان للمسلمين الذين أخرجوا من ديارهم, وأجبروا على سكن المخيمات والمنافي بعدما سلبت ديارهم وممتلكاتهم باسم الحرية والديمقراطية. إن وقوف المسلمين على هذا الصعيد الطاهر في هذا اليوم المبارك يؤكد أن الأمة ستتوحد لا محالة, ولنا في الدعاء, والابتهال من على هذا الصعيد, ومن خارجه ما يقوي العزم, ويؤكد الإصرار على وحدة هذه الأمة مهما كانت التحديات والمحن التي تواجهها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي