زيادة الرواتب .. حل أم مشكلة؟!

منذ شهور والشائعات تسري بين الناس كأنها حقائق حول زيادة مرتبات الموظفين وأجورهم حتى أن البعض قطع في الأمر والبعض الآخر حدد مقدار الزيادة فيما ذهب بعض ثالث إلى تخصيص نسبة لكل فئة محصورة بين هذه الدرجة أو تلك.
وطبعا لا غرابة في انجذاب الناس، خصوصا موظفي الدولة، لهذه الشائعات لأن الزيادة في الرواتب والأجور لها بريق نفسي لكونها تنفخ رقم المرتب والأجر فيمارس هذا الانتفاخ إغراءه من خلال قيامه بعملية إحلال شعور جديد مكان شعور عاش به صاحبه ردحا من الزمن، وإلا فإن الحقيقة التي نثابر على التملص من الاعتراف بها (من واقع التجربة)، هي أن الزيادة التي تنفخ رقم المرتب والأجر سرعان ما يتم "شفطها"، في زيادة أسعار مشترياتنا الاستهلاكية واحتياجاتنا الضرورية وبالتالي يكون حالنا في النهاية "لا طبنا ولا غدا الشر"، كما يقول مثلنا الشعبي.
هل هذه دعوة للوقوف ضد الزيادة في المرتبات والأجور؟ طبعا.. "لا" ولكن "نعم" إذا كانت الزيادة ستكون إجراء وحيدا معزولا عن سياسات موازية مساندة، لأن رفع رواتب وأجور موظفي الدولة (الذين لا يتجاوز عددهم، على أكثر تقدير، مليون فرد ما بين مدني وعسكري)، سيعني توجيه امتياز خاص بهؤلاء الموظفين فقط دون سائر المواطنين، ذلك أن قوى العمل الإجمالية ليست محصورة في موظفي الدولة فحسب، وإنما هناك جمهور غفير بالملايين من الساعين في مناكب الأرض بحثا عن الرزق الحلال ممن تعارفنا على إجمالهم تحت اسم (متسبب) ومن العاطلين والفقراء فهؤلاء إضافة للعاملين في القطاع الخاص خصوصا من لا تتجاوز مرتباتهم أو أجورهم قدرا معينا من المال بالكاد يفي ببعض الضروريات.. أولئك كلهم سيكونون غير مشمولين بزيادة الرواتب وخارج الانتفاع من هذا الإجراء فيما لو تم لوحده، لا، بل سينجم عن تلك الزيادة أعباء جديدة تثقل كواهلهم حيث عادة ما يواكب الارتفاع الأتوماتيكي للأسعار أي زيادة في الرواتب، ولنا في زيادة الـ (15 في المائة) السابقة أقرب دليل!!
لكن في المقابل، فالزيادة تصبح إجراء منطقيا حين يؤخذ في الحسبان ألا تتسبب هذه الزيادة في تعميق الفجوات بين المرتبات الصغيرة والمرتبات الكبيرة، فنسبة 30 في المائة مثلا لموظف راتبه أو أجره ألفا ريال غيرها بالنسبة لموظف راتبه 15 ألف ريال، الأمر الذي سيفاقم من اضمحلال الطبقة الوسطى، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المهم أن يتزامن إجراء رفع الرواتب مع إجراءات اقتصادية أعمق تتصل بالتعليم والتدريب وبالتوظيف والسعودة، وبوضع حد أدنى للأجور، وضع تأمين صحي شامل للمواطنين، مرتبات للعاطلين عن العمل، تنفيذ استراتيجية معالجة الفقر لتشمل كل المناطق مع التأكيد على زيادة مخصصات الضمان الاجتماعي على أساس الفرد وليس على أساس الأسرة، الإسراع في تنفيذ مشاريع الإسكان الشعبي، تخفيض الرسوم على الماء والكهرباء والتأشيرات أو إلغاء بعضها، ضبط أجور السكن، توفير وحدات سكنية بأسعار مناسبة للتملك مع التعجيل بآلية الرهن العقاري ومراعاة عدم الغلواء فيه، دعم الغذاء والدواء ومواد البناء إلى جانب مراقبة الأسعار والاحتكار والحسم في إنفاذ العقوبات القانونية ضد من يخالف الأنظمة واللوائح في أي من هذه المجالات، وفضلا عن هذه وتلك هناك إجراءات سيادية تتصل بالسياستين المالية والنقدية، نظن أن حبرا كثيرا سال في نقاشهما وباتت الخيارات واضحة، وعسى أن يكون فيما قيل فيهما فصل الخطاب.
هذه الإجراءات هي ما يجعل من زيادة الرواتب – فيما لو أقرت - زيادة منطقية مأمونة السلبيات في ظل المستجدات والتحديات التي نواجهها، سواء تداعيات عوائد الطفرة المالية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط قياسا بما كان عليه خلال الـ 20 عاما الماضية، أو انعكاسات التضخم المقبل من توعك الاقتصاد العالمي ومن جشع محلي.. أما الزيادة في الرواتب لوحدها فلن تكون سوى مخدر موضعي وقتي لجزء من الجسد الاجتماعي فيما الأجزاء الأخرى تظل تعاني أوجاعها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي