من "الأمركة" إلى "الصيننة"
كان نابليون قد قال: (الصين نائمة فلا توقظوها!) وكانت غاطسة في بحر لجي من التخلف وحكم الأسر والجنرالات وتجار الأفيون ونظام السخرة .. لكنها رغما عن القائد نابليون أيقظت نفسها ولم يوقظها أحد .. فلاحين وصعاليك، قادهم ماوتسي تونج ورفاقه شو إن لاي، ليو شاوشي، لين بياو وغيرهم من المغامرين الماركسيين، وبعد "المسيرة الكبرى" من أقصى الصين إلى أدناها ولدت الصين الشعبية عام 1949 وخلال أعوام فجرت الصين بمعونة السوفيات قنبلتيها الذرية والهيدروجينية ثم مرت في مخاضات عسيرة أبشعها مظالم "الثورة الثقافية" (1965 ـ 1972) التي سطرت فصولا من أهوالها رواية "بطات بحرية".
مات "ماو" وفتح خلفاؤه الحمر أبواب المدينة المحرمة. سمحوا لرياح البرجوازية أن تنعش اقتصادهم.. وشعر "ماو" الذي كان يتغنى: (دعوا ألف زهرة تتفتح) فيما لم يكن هو يسمح بذلك، تحول بعده إلى ملايين الزهور، صار الاقتصاد الشيوعي اقتصادا حرا تمخر عبابه شركات (أمريكا) عدو الأمس اللدود، وشركات ودول أوروبا وكل من شاء الاستثمار خلف سور الصين العظيم. وأصبح الاقتصاد الصيني في غضون نصف قرن الأكبر نموا في العالم حتى فاض طوفان سلع المصانع الصينية بأسعار زهيدة أغرق حاضرة الرأسمالية الأمريكية نفسها، زاحم ونافس بضائعها وفعل الشيء ذاته في بقية أقطار العالم حتى بات مصدر تهديد حقيقي للزعامة الأمريكية وللتفوق الغربي بشكل عام.
الصين الجائعة المخدرة التي كانت تأكل روث البهائم، كما أشارت بيرك باك في روايتها "الأرض الطيبة"، وضعت يدها على أسرار التقنية والصناعة وأدارت دفة العالم فلم يعد الشمال شمالا كما كان، ولا الجنوب جنوبا حسب التقسيم القديم الذي قصد بالشمال الدول الغنية وبالجنوب الدول الفقيرة، فقد أخذ الميزان التجاري للصين يتحول مع أغلب دول العالم، بما فيها دول شمال الأمس لصالحها.
لكن هل تعني يقظة الصين أنها قادرة على (صيننة) العالم – أي جعله متأثرا مستلباً بالثقافة والحضارة الصينية – مثلما ظل العالم حتى اللحظة "مؤمركا" أو متأمركا، أي مستلبا بالثقافة والحضارة الأمريكية، خصوصا والقرن الماضي كان قرنا أمريكيا بامتياز؟ هل تحل "الصيننة" محل "الأمركة"؟ أم أن هيمنة الصين ستتوقف على القدرة الهائلة لاقتصادها وتجلياتها الصناعية والتقنية فقط؟ بمعنى آخر.. هل سيحج العالم إلى بكين وشنغهاي وغيرهما من مدن الصين لكي يتعلموا لغتها، يدرسوا في جامعاتها، يتهافتوا على أغانيها، أزيائها، سياراتها، وتبني عاداتها وتقاليدها وحتى التشبه برجالها ونسائها والتطلع إلى زمالة أو زواج مثلما هو حادث في تلهف الشعوب الأخرى منذ أكثر من قرن إلى أهل أمريكا والغرب ومحاكاتهم والتطلع إلى بلدانهم هجرة أو سياحة؟ هل يستبدل العالم "الأمركة" بـ "الصيننة"؟ ونسمع، أو يسمع أولادنا تنطعات بعضهم أمام بعض بأنهم ذاهبون إلى الصين أو قادمون منها؟!
ربما من المبكر الإجابة عن هذه التساؤلات غير أنني أحيلكم إلى كتاب ضخم لذيذ (كيف يحيا الإنسان؟) للكاتب الصيني لين يوتانج، ترجمه المرحوم خيري حماد، يقص فيه لين يوتانج متعة أن تكون صينيا عبر سرده الدافئ لتفاصيل حياة وتقاليد وعادات الصينيين.. فلو وجدت في نفسك ميلا لما قاله ذلك العجوز الحصيف فأظنك تكون قد قطعت منتصف الطريق إلى "الصيننة" لأن النصف الآخر يتوقف على أثر فعل الحاضر الصيني ومستقبله.. فلو استحوذ الإنجاز الصيني على عقلك، أو عقل أحفادك كما استحوذت علينا إغراءات وإنجازات حضارة نيويورك، سان فرانسيسكو، لوس أنجلوس، لندن، روما، جنيف، باريس، ميونيخ، فيينا، كوبنهاجن، استكهولم، هلسنكي.. إلخ. لو حدث هذا فقد تم"التصينن" الكامل ودالت دولة "الأمركة"..أما أنا فإني أوجس في نفسي خيفة من "الصيننة" مثلما ظللت مأزوماً من "الأمركة" لأن هذه الأخيرة وإن كانت قد بهرتنا فقد دحرتنا في كل قضايانا العادلة وما الضامن بأن الصين (وهي من حيث عدد السكان ستة أضعاف سكان أمريكا) لن تفعل بنا الشيء ذاته.. وربما أسوأ؟!