"فكر 6" والفكر العربي النفطي
أنهت مؤسسة الفكر العربي أمس حفلا فكريا ضخما استمر لمدة ثلاثة أيام في العاصمة البحرينية، وهو المؤتمر السادس من نوعه والذي يعرف الآن باسم "فكر 6". والملاحظ على هذا الاجتماع أنه الأول من نوعه على المستوى العربي الذي ركز على الطاقة ومستقبلها بشكل كبير. هذا الاهتمام يعكس تطورا كبيرا في الفكر العربي يتناغم مع تأسيس منتدى الطاقة الدولي في الرياض عام 2000، وعقد قمة "أوبك" في الرياض في الشهر الماضي. هذا التطور يتمثل في حقيقة مفادها أن سياسات الطاقة، سواء في الإنتاج أو الاستهلاك أو التصدير أو الاستيراد هي نتاج فكر، وهذا الفكر لا بد من بنائه وتطويره ليتلاءم مع التطورات إعلامية. من هذا المنطلق دعوت منذ ست سنوات إلى إنشاء الفكر العربي النفطي، كما دعوتُ المنظمة في مؤتمرها الأول إلى تبني الموضوع. لهذا فإن الأفكار المطروحة أدناه ليست بالجديدة، ولكن أهمية الحدث أوجبت تكرارها.
ضرورة وجود فكر عربي نفطي
هناك حاجة ماسة إلى تكوين وتطوير "فكر عربي نفطي" هدفه التعامل مع الفكر الغربي وتصحيح مفاهيمه الخاطئة، وتربية الأجيال العربية على مفاهيم عامة تتعلق بالموقف العربي من أمور النفط العالمية. وهنا لابد من التنويه إلى أن كلمة "عربي" هنا لا علاقة لها بالمفهوم السياسي القومي، إنما هو مفهوم جغرافي تحكمه العوامل الجغرافية أكثر من أي شيء آخر، خاصة أن الغرب يربط النفط بـ "العرب" أكثر من "المسلمين". كما أود أن أنوه أن أي جهود في مجال "الثقافة النفطية" لن يكون لها أثر إيجابي إذا لم يكن لهذه الثقافة إطار فكري معين، وقبل أن يأطر الآخرون هذه الثقافة في أطرهم الخاصة، علينا أن نضع أساسيات هذا الفكر بما يخدم مصالح الأمة، ونضع "الثقافة النفطية" ضمن إطاره.
منهجة العداء
استطاع الغرب خلال 30 سنة الماضية تكوين وتأصيل وتأطير فكر نفطي معاد للعرب يتمثل في الكم الهائل من المقالات والكتب والمواقف السياسية والسياسات الاقتصادية واستراتيجيات الطاقة، بالإضافة إلى قدرته على خلق تعابير وجمل وكلمات التصقت بهذا الفكر وأصبحت جزءاً منه. فقد استطاع هذا الفكر تأصيل كلمة "كارتل" ولصقها بـ "أوبك" ظلماً وعدواناً، كما استطاع إدخال تعبير "أمن الطاقة" كتعبير سياسي شائع رغم انه لم يستطع أحد حتى الآن تحديد معناه، إلا أن أحد إسقاطاته "تخفيف الاعتماد على النفط العربي". كما استطاع هذا الفكر ربط كلمة "عرب" بـ "النفط"، وربط كلمة "عرب" بـ "عدم الاستقرار". واستطاع هذا الفكر ربط كلمة "عرب" بـ "الاستغلال" بعد أن اقنع مئات الملايين من البشر بأن تكاليف إنتاج النفط في الدول العربية منخفضة جداً ولا تتجاوز بضع سنتات أمريكية، ومع ذلك يقوم العرب ببيع النفط بعشرات الدولارات للبرميل! واستطاع الغرب منهجة أو بالأحرى " أكدمة" هذه الفكرة عن طريق إلغاء نظرية "تكلفة الاستعمال" من كتب الاقتصاد الجزئي واستخدام "التكلفة الحدية" بدلاً منها. واستطاع هذا الفكر أخيراً ربط كلمة "النفط" بـ "الإرهاب"، بعد أن نجح على فترة طويلة من الزمن بربط كلمة "عرب" بـ "الإرهاب".
ونجح الغرب في "منهجة" أو "أكدمة" كثيراً من الآراء المعادية للعرب حتى اكتسبت الصفة الأكاديمية والعلمية، رغم أنها كتابات تفتقد إلى أصول البحث العلمي. لذلك فإن عملية تكوين فكر عربي نفطي ستكون صعبة الحمل، صعبة المخاض، صعبة الولادة، وصعبة النشأة، خاصة أنه من الصعب تكوين هذا الفكر بشكل مستقل بحيث لا يكون كردة فعل للفكر الغربي. ولكن لابد من تكوين هذا الفكر مهما كانت الصعوبات لأنه لا يمكن على الإطلاق إجراء حوار بين المثقفين العرب والمثقفين الغربيين دون التعرض لموضوع النفط: فالعرب يملكون أغلب احتياطيات النفط في العالم، ووفقاً للغرب فإن أموال النفط هي التي تفرخ الإرهاب، وهي التي تمول المساجد في أماكن مختلفة من العالم. كما يعتقد الغربيون أن العرب سببوا كارثة اقتصادية للعالم الغربي في السبعينيات بسبب المقاطعة النفطية العربية للولايات المتحدة وهولندا. ولا يمكن عزل النفط عن الصراع العربي الإسرائيلي لأن أموال النفط هي التي تمول الانتفاضة والحركات الفلسطينية بطريقة أو بأخرى.
كما نجح الجمهوريون في الولايات المتحدة في إنشاء فكر جديد قوامه إلغاء الاعتماد على النفط بالكامل، وذلك عن طريق تخويف الشعب الأمريكي من هجمات إرهابية، ثم الربط بين الإرهاب والنفط. في الوقت نفسه نجح الديمقراطيون في تخويف ملايين الأمريكيين من كارثة بيئية قادمة بسبب الاحتباس الحراري، ثم قاموا بربط هذه الكارثة بالنفط، الأمر الذي يتطلب إلغاء الاعتماد على النفط. تم هذا التخويف عن طريق إنشاء فكر جديد سخرت له الصحف والكتب والأفلام السينمائية. بين هذين الفكرين، ظهر فكر جديد أكثر تطرفاً يطالب بإلغاء الاعتماد على النفط العربي لأنه ذلك يخفض أسعار النفط، وبالتالي يسهم في تحقيق "الديمقراطية" في العالم العربي.
تكوين الفكر المعادي للعرب من خلال النفط لم يقتصر على وسائل الإعلام ودور النشر، وإنما صاحبه استراتيجيات وسياسات اقتصادية استلزمت إنفاق مليارات الدولارات لمحاربة الدول النفطية عن طريق تطوير مصادر الطاقة البديلة، خاصة الوقود الحيوي. فقد قامت حكومات الدول المستهلكة بتقديم إعانات هائلة لمنتجي الوقود الحيوي ومصادر الطاقة البديلة، الأمر الذي نقل العداء للعرب إلى القطاع الخاص. فقد أصبح من الطبيعي أن تسوغ الشركات حصولها على هذه الإعانات بأنها تسهم في "محاربة الإرهاب" عن طريق تخفيض اعتماد بلادها على "النفط المستورد.
لهذا فإننا في حاجة ماسة إلى فكر عربي نفطي يتميز بالإنسانية والموضوعية والعدالة والعالمية بعيداً كل البعد عن ردة الفعل والعواطف والعنصرية والانتهازية. إن أخطر أمر يواجه تكوين هذا الفكر هو أن يتكون كردة فعل للفكر الغربي، حيث عليه أن يتكون ذاتياً بناء على تراثنا العربي الإسلامي المتسامح بمفاهيمه الإنسانية العالمية.
إن تكوين الفكر لا يتم في "أنا أعتقد" و"في رأيي أنا" و"علينا أن نقوم بكذا" و"قال فلان كذا"، وإنما يتمثل في الأعمال الفكرية والأكاديمية والنظريات العلمية والنماذج الرياضية والإحصائية التي ستخضع لنقاش طويل على مدار السنوات المقبلة. إن عملية تكوين أساسيات هذا الفكر ستستغرق سنوات طويلة، بينما قد تستغرق عملية بناء الفكر نفسه عدة عقود من الزمن.