رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


فما حصدتم فذروه في سنبله إلا..

[email protected]

ما من شك أن المال يمثل عنصراً أساساً في حياة الأفراد، والمجتمعات، وبالمال تستمر الحياة، وتنمو، ومن دونه تضعف المجتمعات، وتتراجع في أمور كثيرة. وورد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المطهرة الكثير من النصوص التي تؤكد أهمية المال وقيمته وأثره في حياة الناس "ويحبون المال حباً جماً" وقوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات". وهذه الآيات الكريمات تدل على حب الناس المال وسعيهم لجمعه والحصول عليه، لكن الاختلاف في هدف الحصول عليه بين الناس يشكل علامة فارقة "إن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم". فمن الناس من هدفه جمع المال فقط، ومنهم من ينفقه في أعمال الخير ومنهم من ينفقه في أعمال وتصرفات سيئة. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على المجتمعات في التعامل مع المال.
وثراء المجتمعات والأمم يعتمد في الأساس على توافر الثروات الطبيعية والبشرية، فكم من مجتمع توجد فيه ثروات طبيعية، لكنه مجتمع فقير لأنه لا توجد الخبرات ولا السياسات التي تمكن من الاستفادة من هذه الثروات، وكم من مجتمع فقير في ثرواته الطبيعية لكنه في الوقت ذاته مجتمع غني، وذلك بسبب قدراته البشرية الهائلة ذات العقول المتميزة، وأبرز مثال على ذلك اليابان، حيث لا يتوافر لها من الثروات الطبيعية ما يتوافر لغيرها، من الدول، لكنها بلد غني، وقوي من الناحية الاقتصادية. ولو تأملنا في واقع المجتمعات لوجدنا أنها تمر بحالات متفاوتة بين الثراء والفقر، فهذا مجتمع يمر بحالة ثراء وازدهار ونمو ووفرة مال, ثم لا يلبث أن يمر بحالة ركود وفقر وتراجع اقتصادي، وكم من المجتمعات التي مرت وتمر في وقتنا الراهن بهذا الوضع، لكن العبرة في نهاية المطاف هي في الدروس والعبر التي نخرج بها، ونستفيد منها ونوظفها في حياتنا وتنظيم أمورنا بدلاً من عرضها، وتذكرها كأحداث تاريخية فقط. البعض من الناس والمجتمعات يستفيد من خبراته السابقة بإيجابياتها وسلبياتها، والبعض لا يلقي لهذه الخبرات بالاً ولا يوظفها في حياته الحاضرة أو المستقبلية. لقد مرت بنا طفرة مالية كبيرة وملاءة مالية ضخمة وتمت الاستفادة من تلك الوفرة المالية التي حدثت بسبب ارتفاع أسعار النفط، وبنيت الطرق، وبعض المرافق التعليمية، والصحية، لكن هل تم توظيف الوفرة المالية كما يجب؟ إن عملية تقييم صادقة مع النفس ربما تكشف لنا أننا لم نستفد من تلك الثروات كما يجب، وقد يكون السبب ربما لنقص الخبرة لدينا في إدارة المال بالصورة المطلوبة، كما أن غياب مبدأ الأولويات، وافتقاد الرؤية الدقيقة بشأن ما يجب أن نبدأ به أولاً، وما يجب أن نؤجله كان أحد الأسباب، إذ مرت الطفرة ولم ننشئ المدارس الحكومية رغم كثرة المستأجرة في ذلك الوقت، ومرت الطفرة ولم تستكمل الطرق البرية، بل ولم نفكر في السكك الحديدية التي تربط بين مناطق المملكة الشاسعة رغم الحاجة الماسة إليها والتي ثبتت أيام حرب الخليج الثانية. إن عملية تقييم دقيقة وموضوعية ربما تكشف لنا أن المشاريع التي نفذناها في تلك الفترة ربما كانت بأسعار مبالغ فيها، والسبب كما قلت يعود لقلة الخبرة والاستعجال في تنفيذ المشاريع. نمر الآن بطفرة مماثلة إن لم تكن أكبر، فهل لدينا تصور واضح، أين سنضع كل ريال؟ وكيف؟ تأملت في قوله تعالى "يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال توزعون دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون" هذه الآيات تمثل تفسير رؤيا فسرها يوسف, عليه السلام, تتطابق مع الواقع الذي أشرنا إليه من حيث الأوضاع التي تمر بها المجتمعات والأمم، حيث تجد النماء والازدهار والغنى، ثم ما يلبث الوضع أن يتحول إلى صورة مغايرة تماماً حيث الفقر والعوز وتردي المعيشة، وهذه الآيات وغيرها من الآيات الأخرى والأحاديث تؤكد ضرورة التصرف بحكمة مع الثروات فلا تترك للأهواء، والرغبات تتحكم فيها وتصرفها كما تشاء، بل إن الأمر يتطلب تخطيطاً ودقة ووضوحاً فيما نصرفه، وأين نصرفه؟ وكيف؟ إن الحكمة الربانية تقول "ولا تغلل يدك إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا".
إن استغلال هذه الموارد المالية ووضعها في أماكنها الصحيحة، هو ما يجب أن يحدث,حيث إن الميدان التعليمي والصحي وقطاع المياه والكهرباء والطرق وباقي الخدمات يفترض أن تحظى بالعناية وتعطى الأولوية، كما علينا أن نأخذ في الحسبان النمو المستمر في المجتمع وزيادة السكان، وهذا من شأنه أن يترتب عليه تنفيذ مشاريع استباقية تتناسب مع نسبة النمو السكاني، والتوسع في المدن والقرى. تشير التوقعات إلى أن فائض ميزانية عام 2008 سيكون مرتفعاً وتقدره بعض المصادر بأنه سيكون أكثر من 250 مليار ريال، وهذا المبلغ الضخم مع ما سيصرف وفق بنود الميزانية يحتاج منا إلى التعامل بدراية فائقة مع هذه الثروة، إذ ليس من المسوغ ولا من المصلحة أن تصرف الأموال كيفما اتفق. في السابق وربما لا يزال هذا الوضع قائماً حتى الآن يوجد بعض الجهات الحكومية التي تضطر إلى صرف ما خصص لها في بنود الميزانية، وقد تصرف هذه الأموال في مجالات، وعلى أمور ليست مهمة، وذلك ضماناً لحصولها على اعتمادات أكبر في الميزانيات المقبلة. إن تطور الحياة ونمو المجتمع واتساع وتعدد مجالات الصرف تتطلب منا أن نعيد النظر في تفكيرنا الإداري ونظمنا المالية حتى نتمكن من وضع الأموال في أماكنها الصحيحة.
هل صحيح أن الأفراد والمجتمعات تتغير سلوكياتهم وعاداتهم في اللبس والأكل والمسكن، وبعض أنماط الحياة حسب واقعهم المالي؟ الجواب نعم، في حياة الثراء والرفاه تتغير تبعاً لذلك بعض العادات، ويميل الناس إلى مزيد من الصرف، بل يصل الأمر بالبعض إلى البذخ والإسراف، والدليل على ذلك العمالة المنزلية الزائدة على الحاجة في كثير من الأحيان والإسراف في المأكل والمشرب واللباس واستخدام الكهرباء والماء ...إلخ. إن دعوة يوسف, عليه السلام, للاحتفاظ بالحبوب في سنبلها ليست دعوة للبخل لكنها مثال للحكمة في التعامل مع المال الذي قد نبحث عنه في يوم من الأيام ولا نجده، وهذا في حد ذاته درس من دروس الإدارة المالية التي أثبتها التاريخ وأكدتها الأحداث التي مرت بها المجتمعات ومن بينها مجتمعنا. على ألا تكون هذه القاعدة سبباً في تعطيل المشاريع التنموية، كما حدث في الطفرة السابقة حين حرمت بعض الجهات من تنفيذ المشاريع التابعة لها بسبب جمود وتصلب التفكير الإداري القائم في تلك الجهات خلال تلك الفترة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي