بحثا عن توصيف
تمر السوق النفطية بمرحلة جديدة تبدو صعبة على التوصيف بقدر ما هي صعبة على الإدارة وذلك بسبب حالة الغموض التي تكتنفها. ففي السابق كانت الأمور من البساطة والوضوح، حيث يمكن القول وبثقة إن هناك صدمة نفطية وذلك إشارة إلى حالة السوق في عقد السبعينيات عندما تضافرت عوامل زيادة الطلب، نقص الإنتاج والبعد السياسي المتمثل في حرب تشرين الأول (أكتوبر) العربية الإسرائيلية التي فتحت المجال أمام الدول المنتجة عبر منظمة الأقطار المصدرة للنفط "أوبك" لأخذ زمام القيادة من الشركات الأجنبية.
من خلال عاملي الإنتاج والأسعار والتحكم فيهما إلى حد ما كان من اليسير وصف السوق أن رياحها تهب لصالح المنتجين أو المستهلكين. ولهذا كان ممكنا أيضا الحديث عن الصدمات النفطية الكبيرة منها، كما شهد عقد السبعينيات لصالح المنتجين أو تلك التي تناولت حرب الأسعار في عقد الثمانينيات، ولحقت بالوصف تجارب أصغر مثل الفترة التي شهدت الثورة الإيرانية أو غزو الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين للكويت مطلع العقد الماضي.
على أن المرحلة الحالية التي تمر بها السوق النفطية تطرح مزاجا مختلفا. فهي في حالة تصاعد سعري مستمر لقرابة خمس سنوات متصلة، وليس في الأفق ما يشير إلى وجود تأثير ملحوظ لا على النمو الاقتصادي ولا على فرص النمو في الطلب. فإحدى القواعد الأساسية التي واكبت الصدمات النفطية السابقة بمختلف أشكالها أن الارتفاع الحاد في الأسعار يدفع إلى ضخ المزيد من الاستثمارات في القطاع النفطي، الأمر الذي يعبر عن نفسه فيما بعد بالمزيد من الإمدادات التي تؤدي هي ذاتها إلى زيادة العرض على الطلب ومن ثم تفرض على الأسعار التراجع. أو بالعكس فتراجع الأسعار إذا استمر فترة طويلة يسهم بدوره في تحفيز الاستهلاك. وباختصار فإن كلا من الأسعار المرتفعة وتلك المنخفضة إذا استمرت لفترة من الوقت على مستواها المرتفع أو المنخفض تضع بذور أزمة مستقبلية لا يريدها أحد.
اتساع السوق من ناحية وتعدد العناصر المؤثرة في عاملي الإنتاج والأسعار أصبح من العوامل التي تحد من القدرة على التعامل. فهناك قائمة طويلة لا نهاية لها تقريبا من الطقس باردا أو دافئا إلى الاضطرابات الأمنية في هذه الدولة أو تلك، إلى موسم الأعاصير، حيث أصبح من غير الممكن التعامل مع أي توقعات تخص الأسعار خلال فترة الربع الثالث من كل عام وما بعدها دون وضع لما يمكن أن يجري في المنطقة الكاريبية وتأثير ذلك في خليج المكسيك الذي يضم جزءا مقدرا من الإنتاج النفطي المحلي الأمريكي وهكذا.
عامل آخر يتمثل في أن ميدان الاستهلاك لم يعد قاصرا على الدول الصناعية الغربية، حيث يمكن وبسهولة استقراء الوضع من خلال البيانات والأرقام المتدفقة والمتوافرة. فالثقل في الاستهلاك انتقل إلى الدول الآسيوية بقيادة الصين والهند، وهذه لا تتمتع بوضوح كاف فيما يتعلق بالمعلومات المتاحة التي يمكن على هديها وضع السياسات. وظهر هذا بوضوح في أن عام 2005 شكل مفاجأة للجميع نسبة لصعود الطلب بصورة غير متوقعة، ويعود ذلك أساسا إلى حجم الاستهلاك الصيني الذي لم يعرف به أحد. وهذا مرشح ليتفاقم نسبة لأن نسبة أساسية من الطلب ستنبع من الدول النامية.
والأمر هكذا فيبدو أن السوق النفطية تقف على تقاطع طرق: فهل تتجه إلى حدوث حالة من خمود الطلب، أم أن حالة الانتعاش المستمرة منذ قرابة خمس سنوات ستواصل مسيرتها؟ وهل وصل الأمر بوضع الإمدادات إلى حالتها القصوى؟ الأمر الذي يؤدي إلى حدوث فجوة بين العرض والطلب قد تبدو جلية وواضحة في غضون خمس سنوات فقط، كما تحذر الوكالة الدولية للطاقة.
الصناعة النفطية عالمية بطبيعتها، وهو ما يتضح بصورة جلية من عمليات تسعيرها، وهذا الجانب العالمي ازداد وضوحا بسبب تدافع موجات العولمة التي طغت على كل شيء ومن باب أولى أن يزيد تأثيرها على هذه السلعة العالمية. وتفاقم حجم التأثير بسبب تكاثر وتعدد حجم اللاعبين على جانبي الإنتاج والاستهلاك.
وهذه الوضعية تثير سؤالا غاية في الأهمية ويتعلق بكيفية إدارة السوق في زمان متغير. فمن عهد ستاندارد أويل، إلى الشقيقات السبع، إلى هيئة سكك حديد تكساس إلى "أوبك"، ظلت هناك جهة ما تبدو مشرفة على السوق بصورة أو أخرى. وأحيانا يفرض الواقع العملي ترتيبات من نوع آخر مثلما برز قبل بضع سنوات من دور للقيادة الثلاثية المتمثلة في السعودية، فنزويلا والمكسيك لضبط الإمدادات في تعاون بين المنتجين داخل وخارج "أوبك", وهي المرحلة التي تم تجاوزها بعد تحول السوق إلى صالح المنتجين والاتجاه إلى التصاعد بالإنتاج تلبية للطلب المتنامي. وقد يكون الرد أن الصناعة النفطية طول عهدها تعيش حالة من المتغيرات وفي ذلك الإرث ما قد يساعد على تجاوز المرحلة الحالية.