تراجع الدولار .. شماعة "أوبك"
هناك مثل إنجليزي يقول: إنك لا تستطيع أن تحتفظ بكعكتك وتأكلها أيضا، وهذا بالضبط ما يحاول بعض أعضاء "أوبك" القيام به بشكواهم من تأثير انخفاض سعر صرف الدولار على إيراداتهم النفطية ومطالبتهم بتبني عملة بديلة لتسعير النفط، نظرا لتناقضه التام مع تفسير "أوبك" للارتفاع الكبير في أسعار النفط الخام أنه نتيجة طبيعية لتراجع سعر صرف الدولار. فإما أن تكون دول "أوبك" قد تضررت من هذا التراجع في سعر صرف الدولار، وبالتالي انخفضت إيراداتها النفطية الحقيقية، أو أن ارتفاع أسعار النفط الخام كان من القوة بحيث وجدت "أوبك" أنها مضطرة لتبريره بتراجع سعر صرف الدولار، أما الأمران كلاهما في الوقت نفسه فغير ممكن ولا مقبول.
والواقع أن الإيرادات النفطية لدول "أوبك" لم تتضرر على الإطلاق من تراجع سعر صرف الدولار، بل إنها ارتفعت بحدة، نظرا لما صاحب ذلك من ارتفاع كبير في سعر النفط الخام. فنسبة الانخفاض في سعر صرف الدولار خلال السنوات الأربع الماضية لم تتجاوز 40 في المائة، بينما تضاعفت أسعار النفط الخام ثلاث مرات، ما يعني أن الإيرادات النفطية الحقيقية لأعضاء "أوبك"، حتى في ظل تراجع سعر صرف الدولار ومن دون أخذ تأثير زيادة الإنتاج في الاعتبار، قد تضاعفت قيمتها الحقيقية خلال هذه الفترة على أقل تقدير. فالتكيف الآلي للأسواق مع تراجع سعر صرف الدولار، الذي سمح بارتفاع أسعار العديد من السلع الأولية، حد كثيرا من تأثير هذا الانخفاض على أسعارها الحقيقية، بحيث إنه في الوقت الذي كانت "أوبك" تقول فيه إنها ترى أن 30 دولاراً سعر عادل لبرميل نفطها كان السعر قد تجاوز 50 دولارا في سوق النفط العالمية، وعندما أصبحت مقتنعة بـ 40 دولارا فقط تعدى السعر 60 دولاراً، وعندما بدت "أوبك" راضية تماما بسعر 60 دولارا كافأتها الأسواق بما يزيد على 90 دولارا وتعدها الآن بالمزيد.
بالتالي لم يترتب على تسعير النفط بالدولار أي ضرر على دول "أوبك"، وليس هناك ما تكسبه المنظمة من تسعير نفطها بعملة أخرى بما في ذلك اليورو، أو من خلال تبني أفكار راديكالية غير واقعية كفكرة وضع عملة خاصة تسعر به نفطها. بل على العكس من ذلك، قد يتسبب عدم تسعير نفط "أوبك" بالدولار، إلى عزل نفطها عن الأسواق المالية العالمية التي كان دورها فاعلا في ارتفاع أسعار النفط الخام خلال السنوات الأربع الماضية، بإظهارها كفاءة عالية في تسعير النفط بصورة تراعي معدلات النمو المتوقعة في الطلب العالمي على النفط وتوازن العرض والطلب المستقبلي على النفط، ولا تعكس فقط أساسيات السوق النفطية حاليا، فهذه الأساسيات ليست كافية وحدها لتبرير كل هذا الارتفاع في أسعار النفط الخام.
لذا فإن الضرر الذي لحق باقتصادات دول "أوبك" جراء تراجع سعر صرف الدولار لم يكن نتيجة لتراجع إيراداتها النفطية الحقيقية أو عدم تسعيرها نفطها بعملة أكثر قوة، وإنما كان بسبب عدم تبنيها سياسات اقتصادية مناسبة تحمي اقتصاداتها من التأثيرات السلبية الأخرى لتراجع الدولار على اقتصاداتها. فتراجع سعر صرف الدولار وارتفاع أسعار النفط الخام كان يتطلب تكيفا adjustment مناسبا في أسعار صرف عملاتها يواكب التغيرات التي كانت تحدث في سعر صرف الدولار وأسعار النفط، إلا أن تأخرها غير المبرر في إحداث تعديل مناسب سواء من خلال رفع سعر صرف عملاتها أمام الدولار أو ربطها بسلة عملات هو الذي فاقم من تأثر اقتصاداتها بتراجع الدولار. أي أن التكيف الآلي للأسواق market mechanism قد ضمن أن ترتفع أسعار النفط بما يكفي لتعويض "أوبك" عن تراجع سعر صرف الدولار، لكن ضمان عدم تضرر الاقتصاد المحلي من هذا التراجع ليس مسؤولية الأسواق وإنما مسؤولية الإدارة الاقتصادية المحلية في ظل تثبيتها سعر صرف عملاتها وعدم سماحها لقوى السوق بإجراء التكيف المناسب، وافتقار إداراتها الاقتصادية للحصافة اللازمة للتعامل مع هذا الواقع هو الذي أضر باقتصادات دول "أوبك" وزاد من التأثير السلبي لانخفاض الدولار عليها. ما يعني أن الآثار السلبية لتراجع سعر صرف الدولار على اقتصادات دول "أوبك" محلية الصنع، وناتجة فقط عن افتقار إدارة اقتصاداتها للمرونة اللازمة في سياساتها النقدية، الذي جعلها غير قادرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت الملائم، وضاعف من أضرار تراجع الدولار على اقتصاداتها، من خلال ارتفاع حاد في معدلات التضخم وتدن في مستويات المعيشة وضغوط هائلة على عملاتها كونها مقومة في نظر الأسواق بأقل من قيمها الحقيقية.
أكاديمي وكاتب اقتصادي