كيف نحول الخسائر المالية إلى مكاسب صحية وبشرية؟
أكاد أجزم أنه لا يوجد في العالم العربي اقتصاديون صحيون أو صحيون اقتصاديون وإلا كنا الآن في وضع أفضل بكثير مما وقفنا عليه خلال هذا المؤتمر عن أن منطقة الشرق الأوسط لا تتوافر فيها قاعدة بيانات تساعد على تحجيم المشكلة وتساعد على توقع مستوى هذا العبء الذي نتحدث عنه "وصفيا" ولا نستطيع الحديث عنه بالجزم "كما ونوعا".
في مؤتمر اقتصاديات الصحة في دول الخليج الأخير ألقيت 22 ورقة بحثت في مناح عدة حول المرض ومضاعفاته وعرضت خلالها إحصاءات ونتائج بعضها مفزع والآخر مفاجئ وفي مجموعها نتائج مقلقة. وبما أنه قد سبق هذا المؤتمر مؤتمر أكثر شمولية في مناقشته الأوضاع الصحية عموما ومن المؤكد أن يقام مؤتمر آخر في العام المقبل يناقش مواضيع أخرى. وستستمر الجهود في اللقاءات للمفاهمة حول كيفية تقليص حجم تكاليف عبء المراضى في المنطقة خليجيا وعربيا وعلى مستوى العالم, ولكن.. كيف نحول الحديث عن الخسائر المالية إلى مكاسب صحية وتنمية بشرية مستدامة؟. أعتقد أننا نحتاج إلى استعراض ما تم الاجتماع عليه في المؤتمر ومن ثم نضع أسئلة تحدد بطرحها ما إذا كنا قد أصبنا الهدف من إقامته. لذلك سأستعرض في عجالة نتائج العديد من أوراق المؤتمر وأحاول محاكاتها لعلي أصل مع القارئ الكريم إلى تصور نسهم به في تعضيد جهود القائمين عليه والمهتمين بالشأن الصحي.
أولا: ما يدعو للاستغراب هو أن قطاع التأمين لم تكن له كلمة في المؤتمر إلا من ورقة قدمها الدكتور عبد الله الشريف، الأمين العام لمجلس الضمان الصحي في السعودية، الذي نوه عن دور التأمين في مظلته لاحتواء كثير من التكاليف, ولكن ما كنا نبحث عنه هو هل يمكن لشركات التأمين وبواليصها أن تقلص من قيمة الفاتورة أم أنها زيادة غير محسوبة؟ وما كنا نبحث عنه ورقة تثبت لنا أن التوجه للتأمين سيساعدنا على احتواء الأزمة سواء معلوماتيا أو اقتصاديا أو علاجيا... إلخ. ربما يكون ذلك في مؤتمرات مقبلة ولكن كان تساؤلا لا أكثر.
ثانيا: من الناحية العلمية فقد نوه البروفيسور أسامة الخطيب عن أن مراقبة الغذاء الصحي والنشاط البدني ونظام الحياة الصحية تمكننا من التخلص من 80 في المائة من الإصابة بالمرض في المنطقة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ألا يمكن أن يكون للفرد رغبات ومتطلبات نحاول بقدر الإمكان اعتبارها في برامج المكافحة وتمكننا من التعايش مع المرض في أفضل الحالات أو أسوأ الظروف؟. كما أنه على الرغم من تحديد وتسمية نوعين من المرض إلا أن العديد من إخصائيي التغذية يعملون عند وضع البرامج في عزلة عن الطبيب المختص أو الطبيب النفسي والكثير من إخصائيي التوعية الصحية ليسوا مؤهلين دراسة وفهما لأبعاد القضية, وهذا في حد ذاته عقبة قد لا تكون جديدة ولكنها مكلفة جدا وتصعّب وضع حجم التمويل المناسب للبرامج مما يستدعي التدخل في إعدادهم من جديد وإعادة النظر في المناهج الدراسية الجامعية أيضا مما يلقي على بعض الوزارات مسؤوليات مضاعفة نسأل الله لهم العون فيها. أما الدكتورة Akiko Maeda، مديرة قطاع الصحة والغذاء والإسكان في البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقد أبانت أن من أخطر النتائج أن أعمار الأفراد المصابين تتركز بين 20 و64 عاما، حيث إنهم الأكثر عرضة للإصابة بهذا المرض والتوقعات تؤكد زيادة الإصابة به بنسب مطردة. ومن المعروف أن هذا المدى من العمر هي الفترة الإنتاجية للفرد, لذلك فهناك حاجة لوضع ركائز اقتصاديات الصحة من منظور أكثر شمولية ويعالج هذه القضايا من زوايا جديدة.
لقد أشار البروفيسور Stephan Martin، أحد المديرين الطبيين في ألمانيا، إلى الوضع في ألمانيا وذكر أن التكلفة المقدرة للمريض بداء السكري سنويا هي (3210 يورو), حيث تقدر تكاليف العلاج المباشرة للفرد بـ 6 في المائة منها, وأن 3 في المائة تصرف على الفحص والمتابعة. شاركه في ذلك الدكتور Klaus Piwernetz وعلق على مواضيع أخرى في الجانب نفسه. لم تكن أستراليا بعيدة عن العرض فالدكتور Christian Gericke، من جامعة إديليد الاسترالية، عرض الوضع وقد التكاليف، وكانت المحاضرة غنية بالمعلومات, ولكن .. ما يهمنا في منطقة الخليج والدول العربية أن ننوه عن شيء يمثل واقعنا فليتنا في الأعوام المقبلة وبحضور مكثف من علمائنا وأساتذتنا في المنطقة نصل إلى رسم إطار للموضوع يساند المسؤولين على تخطي تفاقم هذه المشكلة عبر السنوات العشر المقبلة على أقل تقدير. جانب آخر أثار حيرتي في عرض الدكتور كامل العجلوني حول أن التكاليف الاقتصادية أصبحت عبئا لا يمكن تحمله حتى على الدول العربية الغنية في المنطقة, وتساؤلي هو: كيف تم تقدير حجم ذلك إذا كانت الأوراق تؤكد عدم وجود إحصائيات عن ذلك على مستوى المنطقة؟, إضافة إلى ذلك تأكيد الدكتور الربيعان من مركز السكر في جامعة الملك سعود في الرياض أن ورقته التي قدمها في المؤتمر (والتي لخصت في هذه الصحيفة قبل أيام) هي الأولى في معلوماتها المنشورة على مستوى المنطقة؟!. كما أن الدكتور Jonathon Brown، رئيس جمعية الاقتصاد والسكري في الاتحاد العالمي للسكري، ركز كثيرا على عدم وجود بيانات استرشادية في دول الشرق الأوسط في حين أن منظمة الصحة العالمية توقعت للصين على سبيل المثال ذات المليار ونصف المليار مواطن تقريبا إنها ستنفق ما بين عام 2005 و2014م نصف تريليون دولار أمريكي من الناتج المحلي على هذا المرض فقط.
من هذا كله أكاد أجزم أنه لا يوجد في العالم العربي اقتصاديون صحيون أو صحيون اقتصاديون وإلا كنا الآن في وضع أفضل بكثير مما وقفنا عليه خلال هذا المؤتمر عن أن منطقة الشرق الأوسط لا تتوافر فيها قاعدة بيانات تساعد على تحجيم المشكلة وتساعد على توقع مستوى هذا العبء الذي نتحدث عنه "وصفيا" ولا نستطيع الحديث عنه بالجزم "كما ونوعا". وللحديث تتمة.