ثياب عبد الله

بلدة وادعة مطرزة بالأثل والنخل والبرسيم، غاطسة في أحضان الطعوس الشفقية اللون، تنام على ثغاء البقر ومأمأة الماعز وتصحو على صياح الديوك وهديل الحمام وعلى لجلجة النجر في بيوت طينية مستورة بالزاد الشحيح وماء القرب.. تجتر أيامها ولياليها كغيرها من قرى وبلدات ذلك الزمن البريء في دعابات وتندر بمجانينها وعيَّاريها وبالحديث عن المطر والربيع والجراد والفقع أو عن الجن والعين والسحر وقرصات العقارب والحنشان أو عن غارات الذئاب على الأغنام والثعالب على الدجاج.
في الليل تدور أباريق الشاي والقهوة، يعاقرون فناجيلهم على نور شحيح للسراج أو في ضوء (القمرا) في السطوح أو فوق الكثبان في الصيف أما في الشتاء فيتحلقون حول النار وإذا شاءوا أن يتخففوا من وعثاء الكدح وعناء الهم هرعوا إلى الدفوف يجلدونها بالأكف وأصواتهم تتعالى بالغناء في شجن السامري أو الحوطي: (يا نعولي غدن ارهاف.. والحفا يرعب الجن!!).
في هذه البلدة العابقة بالألفة والبساطة ولد وترعرع عبد الله حتى استوى شاباً في مقتبل الرجولة، في دمه فورة الطموح ونزوات المراهقة وفيه أيضا كل دبيب نمل الأزقة والحارات وشقاوات الأولاد وعراك كلابها وقططها ومهرجان عصافيرها على الحيطان أو في (الفلايح)، وفيه نفح روائح مواقدها من دخان (الليف) و(الجله) و(العذوق) أو السعف وما تيسر من حطب .. وفي صدره زخم مشاعر جياشة يختلط فيها صوت الصحب ورفقاء الدراسة بلغط الباعة في باحة البلدة أو على أبواب حوانيتهم أو في دهاليز السوق ..
كبر عبد الله وأمه تقيس طوله، عرضه، ووزنه بالشهيق والزفير، ترصد التغير في تضاريس وجهه وقامته بمسامات روحها .. كان عبد الله بالنسبة لها الأكبر الكبير، أخوه كان طفلاً حين سافر هو للدراسة من تلك البلدة في قاع نجد إلى بلاد العجائب خلف بحر الظلمات.
حمل عبد الله معه دعوات أمه ودموعها، غاب في أطراف الدنيا .. رسائل شحيحة ثم حلت بينه وبين الأهل مسافات سرمدية وبعدها تقطعت دونه الأخبار، قيل ما قيل .. وفي كل عام كانت الحكايات تنمو: (شوهد.. لا.. لم يشاهد، تزوج، لا.. لم يفعلها، أنهى الدراسة.. يعمل في شركة كبرى، لا.. لا هذه ولا تلك..) كل ذلك وأم عبد الله تسمع وتتماسك وتوصي أبنها الآخر وتلح عليه طوال سنوات الغياب في كل مرة يذهب فيها للخياط "لتفصيل" ثيابه أن يقوم أيضا بتفصيل ثياب لأخيه عبد الله.. ثياب للعيد، ثياب للشتاء، ثياب للصيف حتى ضاقت خزنة البيت و"سحاراته" بثياب عبد الله التي بقيت جديدة لأنه ما عاد من سفره أبداً، لكن أمه ظلت تصر على أن يحضر أخوه ثياباً لعبد الله كلما ذهب للخياط.
كما ظلت أم عبد الله طوال سنوات الغياب، تمارس كل يوم تجميع ملامح وجه عبد الله وهيئة جسده من وجوه رجال البلدة وفتيانها الوسيمين ومن قاماتهم الممشوقة: (هاتان العينان تشبهان عينا عبد الله، ذاك مثل أنفه، وذاك صدغه، هاتيك جبهته، هذا الصوت، تلك الضحكة، هذا الإقبال، ذلك الإدبار..) وهكذا ظلت أم عبد الله يوماً فيوما، عاماً فعاماً تجمع ملامحه من الدروب، كان عبد الله منثورا في قسمات رجال البلدة وفتيانها غير أن أم عبد الله لم تره لمرة واحدة ملتماً، لذلك حين كانت الدروب تتخطف عبد الله منها ويفر من عينيها تهرع إلى البيت تتجه إلى الخزانة والسحارات تفتحها، تقف أمام ثيابه، تتأملها تتخيله فيها، تخلع عليها رائحته تشمها، تلتفت يمنة ويسرة، تراه أمامها، تضمه إلى صدرها لكنه في دوار اللهفة يتبخر من بين يديها فينهار فيها سد البكاء.. لكأنها تلك الأم التي عناها الشاعر عبد الوهاب البياتي في قوله:
"يا أسود العينين..
إن أمك في المساء
في كل يوم تفتح الشباك
لكن المساء..
يمضي ولا تأتي
فتجهش بالبكاء!!"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي