القصد تبلغوا
ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: (وما ذاك؟)، قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم)، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة)، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وعند قراءة هذه الكلمات النبوية ترى فيها قصدا منه صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر إلى السعي بالنفس المؤمنة إلى تحصيل مقامات الخير على قدر الوسع والطاقة، وتوجيها لها إلى ما يدرك به ذلك المقام مما هو تحت مقدورها، ثم في آخر الأمر قصد صلى الله عليه وسلم إلى بيان حقيقة شرعية كونية وهي سنة التفاضل بين الناس في قوله: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وهذه الحقيقة جاء الشارع ببيانها في غير موضع من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ?ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما?.
والحاصل أن إدراك هذه الحقيقة يورث في النفس رضى بما كتب الله لها، وسعيا في تحصيل الخير على قدر الوسع والطاقة، وبعدا عن التكلف، والنزول بالنفس البشرية إلى مستنقع الحسد، وبإدراكها يحصل حسن توجيه واستغلال للقدرات البشرية سواء في ذلك الجانب العملي، أو العلمي، فمقام التحصيل العلمي كما يحتاج إلى علو همة وشرف نفس، يحتاج كذلك إلى إدراك حقيقي للقدارت والطاقات، فالناس ليسوا على درجة سواء من الفهم والحفظ وحسن الإدراك، والخير والعبادات أبواب مشرعة متنوعة، فمن الناس من يفتح عليه في باب منها، ومنهم من يفتح عليه في أكثر من ذلك، وكل ميسر لما خلق له، ومن بورك له في شيء فليزمه، والله الهادي.