ما الرهان بالنسبة لمستقبل للدولار؟

في الحالات التي تكون فيها الرؤية غير واضحة والبوصلة الاقتصادية غير مؤكدة يكون دائما هناك من يغامر باتخاذ قرارات صعبة ربما تؤثر في أمة كاملة, أو الانتظار حتى تنجلي الصورة ويكون أسلوب عدم اتخاذ قرار هو القرار في حد ذاته. ويكون للتاريخ بعد ذلك حق تقييم تلك القرارات المتخذة أو عدم اتخاذها في حينه بالمعطيات التي كانت أمام متخذ القرار في تلك اللحظات الصعبة وليس بعد انقشاع الغمامة عن الأعين واتضاح كثير من المعطيات التي لم تكن واضحة في حينه. لذلك يكون هناك دائما في التاريخ قادة يظل يذكرهم في كل المناسبات وقادة لا ذكر لهم وكأن لم يكونوا! ولكن ما القرارات التي علينا اتخاذها أو عدم اتخاذها؟ بهذه المقدمة وهذا السؤال نبدأ لنقول إن النظام المالي العالمي الحالي يتهاوى، ودول الخليج ليس وحدها من يعاني ذلك التغير في النظام العالمي الحالي رغم أننا في وضع أفضل مقارنة بدول أخرى. ولا يعني هذا الكلام أن لا مشكلات لدينا مما يجري، بل لدينا أم المشكلات حقيقة بحكم أن الأنظمة المالية لدينا التي تدير النظام المالي العام لا تزال في مرحلة مبكرة على مستوى الهيكلة والتنظيم والرؤية الكاملة (أنظمة فردية وليست مؤسساتية), وكذلك لا نزال نعاني ـ كما ذكرنا في مقال الأسبوع الماضي ـ فجوة كبيرة لا تزال تتفاقم إن لم يتم استيعابها ما يبدو ما بين الاقتصاد الكلي والجزئي ما يجعل الاعتماد على أرقام كلية أمرا لا يسمن ولا يغنى من جوع بالنسبة للمواطن الخليجي العادي, الذي رغم كل التدفقات المالية الكبيرة على اقتصاد بلاده فإن وضعه المالي يتراجع سنة بعد أخرى بسبب عدم تكامل السياسات ـ كما قلنا ـ (شوف عيني وحظ غيري). لهذا نرى أن الكثير من القرارات إما تفشل وإما لا تنفذ وإما تظهر نتيجة تنفيذها على أرض الواقع طفرات جينية غير مفهومة. النظام العالمي يعاني بسبب مرض الدولار الذي هو مريض لمرض اقتصاده الأمريكي رغم اعترافنا كما قال الأمريكان مرة "نهم الدولار يخصنا ولكنه مشكلتكم" متحدثا للمجتمع الدولي. وهو أمر مر به سابقا الاقتصاد الأمريكي في فترات الحروب المباشرة (حرب فيتنام) أو بالوكالة (حرب أفغانستان مع روسيا) والحرب الباردة عموماً وبالذات في عهد ريجان وإن لم يكن بالحدة نفسها وبالمعطيات نفسها. ولكن سرعان ما تجني أمريكا غنائم تلك الحروب حتى لو كانت قد خسرت تلك الحروب بشكل نمو اقتصادي كبير كما حدث في عهد كلينتون بعد حرب بوش الأب في الخليج، حيث غادر البيت الأبيض بفائض كبير كما نعلم، ودائما كانت الحلول تأتي من الخارج لصالح أمريكا. ولكن معطيات النظام العالمي الحالي تختلف عن التاريخ السابق, وهو الأمر الذي جعل الكثير من المفكرين بمن فيهم مفكرون أمريكيون, يتوقعون أن مصير الدولار إلى الفناء بلا شك. فلدينا عملة جديدة هي اليورو منذ عام 1999م كتكتل لدول تمثل 450 مليون نسمة, وهي تشكل تحديا حقيقيا أمام الدولار, الذي تراجع أمام اليورو إلى أدنى مستوى له منذ تدشين العملة الأوروبية (1.47(. أيضا لدينا قوى صناعية وإنتاجية جديدة تنمو بسرعة كبيرة ولكن بمفاهيم مختلفة وظروف ومعطيات جديدة وعناصر لهذه القوة ليست لدى أمريكا وهي الصين والهند بتعداد يصل إلى أكثر من ملياري نسمة. كذلك لدينا نظام مالي عالمي جديد جعل دولا مثل قطر, الإمارات, والكويت تدير صناديق سيادية تسيطر على بورصات عالمية عريقة وصفتها بعض الأقلام الغربية تحت عناوين تشير إلى القادم الجديد "بالبدو يسيطرون على البورصات" ولدينا شركات أمريكية وأوروبية تركت بلدانها الأصلية وبدأت تعمل في بيئات الصين والهند كقوة شرائية وإنتاجية بتكاليف أقل وحتى جودة أعلى. وأخيرا لدينا تطور غير مسبوق في المنتجات المالية العالمية التي تساعد على سرعة تكامل وتأثر الأسواق المالية العالمية مع بعضها وببعضها بشكل لم يتصوره حتى صانعو السياسات المالية والنقدية حتى حدثت أزمة الرهن العقاري الأمريكية التي تأثرت بها كل الأسواق العالمية في فترة بسيطة جدا. ويدعم تلك التغيرات نفوذ مؤسسات المجتمع المدني العالمية قبل المحلية التي بدأت تتدخل في صياغة التوجهات العامة لبعض السياسات الدولية وإن لم يشاهد بشكل كبير حتى الآن لكنه موجود ويتعاظم دورها.
كل ذلك يدعونا إلى التفكير الجدي على أي نظام مالي عالمي يجب أن نراهن في المستقبل القريب والبعيد, ولا سيما نحن مربوطون بالدولار المريض؟ هل سوف يموت الدولار صانع النظام المالي العالمي الحالي؟ أم أن المسألة لا تتعدى مرضا عارضا سيشفى منه قريباً ومن ثم يعود إلى سطوته السابقة؟
الصورة يمكن شرحها على جزءين، الجزء الأول على المدى المتوسط وهي في حدود ثلاث سنوات إلى خمس سنوات كحد أعلى حيث الرؤية ربما تكون أوضح، وعلى المدى الطويل وهي الحد الذي يتجاوز العقد والعقدين.
على المدى المتوسط يمكن المراهنة على الدولار وبشكل قد لا يتجاوز منتصف العام القادم وبداية عام 2009 في العودة إلى مستويات أفضل مما وصل إليها الآن أو قريب من ذلك. أما على المدى البعيد فإنه من شبه المؤكد أن النظام المالي العالمي لن يستمر على الحال التي هو عليها فلا المعطيات ولا ظروف ولا حقائق الأمر الواقع ستسمح للاقتصادات المختلفة لدول العالم أن يقودها الدولار. وأصبحت المشكلة أكثر جدية أمام صناع القرار العالميين بعدما تم إلغاء الذهب كوسيط للعملات منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي. والأسئلة الجديدة التي تطرح جدياً الآن في الأوساط الأكاديمية وحتى بعض المهنية هي من قبيل كيف يمكن صياغة النظام الجديد؟ وما شكله؟ هل عبر إعادة الذهب مرة أخرى كوسيلة قياس للنقود أم أن نعود إلى نظام المقايضة؟ أو أن هناك نظاما جديدا يتشكل تدريجياً تلعب التقنية الحديثة الدور الرئيسي فيه ربما يولد خلال عقد أو عقدين من الزمن؟ والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي