دعم السلع ... نظرة شرعية
بتصفح سريع للصحف عبر الإنترنت, نجد جميع الشعوب النامية ـ بمفكريها ومثقفيها - تتطلع إلى دعم حكوماتها السلع الرئيسية والخدمات, سواء كان بالدعم العيني, أو النقدي, أو بقرارات الإعفاء من الرسوم الجمركية..إلخ, أو بها جميعاً, ويتحول هذا التطلع الشعبي إلى مطالبة حثيثة حينما تتورم الأسعار بالحد الذي تصغر معه العملة وتتضاءل حتى تكون أمام هذا الورم المتضخم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود, أو كالرقمة في ذراع الحمار! فتضعف القوة الشرائية للعملة وتنكمش أمام قوة الأسعار وتناميها المطرد, ويتضرر الجميع من هذا الداء, ولا سيما المحتاجين الذين يعيشون دون مستوى الكفاف, ممن يكون حالهم ـ كما وصفهم أحد الكتاب - كسعاة البريد الذين يأخذون الرسائل لإيصالها إلى أصحابها, حيث يأخذون الرواتب أو المكافآت في نهاية كل شهر ليسلموها - كما هي - إلى دائنيهم!! ومع هذا الواقع المؤسف نقرأ أحياناً في بعض المصادر الصحافية كتابات تنادي برفع الدعم الحكومي عن السلع الرئيسية والخدمات؛ بحجة أن هذا الدعم يؤثر سلباً في موازنات الدولة, أو أنه يعد نوعاً من أنواع التدخل في الاقتصاد الحر المبني على قوى العرض والطلب, وأن فيه إخلالاً بالقوانين والأنظمة الغربية التي تحد من الدعم الحكومي المباشر للسوق, وخصوصاً نظام صندوق النقد الدولي!!
وبنظرة سريعة لهذا الموقف نجد أن فيه خلطاً من وجهين:
الأول: إن الدول الرأسمالية الغربية ذاتها - التي كانت وما زالت تنادي بالاقتصاد الحر الخاضع لقانون العرض والطلب - نراها قبل أيام تتدخل بحكوماتها وبخزائنها وأموالها لإنقاذ أسواقها المالية التي شارف بعضها على الانهيار قبل أسابيع, لولا عناية الله، ثم تدخل تلك الدول ببنوكها المركزية بضخ مليارات الدولارات في تلك الأسواق, لتسترد بعض عافيتها بعد هذا الدعم القوي والمباشر, وهو صورة عملية من صور التخلي عن نظرية منع التدخل الحكومي لإنقاذ السوق, مما يدل على أن نظرية السوق الحر الرأسمالية بتفاصيلها قد ثبت فشلها إزاء تلك المواقف الماثلة للعيان, حيث تهشمت هذه النظرية على أرض الواقع, وفي ساحة الأسواق المالية تحديداً.
الثاني: إن المطالبة برفع الدعم الحكومي فيه تجاهل صارخ لحال المواطنين, ولا سيما ذوي الدخل المحدود الذين يشق عليهم الحصول على لقمة العيش, ومن الأنانية المفرطة أن ينسى أصحاب الدخول العالية إخوانهم من ذوي الدخل المحدود, كما أن من السياسة الشرعية أن يتلمس الراعي أو الحاكم ما يحقق مصلحة العامة, ويدفع الضرر عنهم, فإذا كان تدخل الدولة المباشر في السوق, ودعمها السلع والخدمات يدرأ عنهم المفسدة, ويحقق لهم مصلحة عامة, فهنا يكون التدخل الحكومي واجباً على الإمام؛ للمحافظة على اقتصاد البلد, ولحفظ مدخرات الناس من الضياع, ومن القواعد الشرعية أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة, ولا شك أن من المصلحة العامة أن يتدخل الحاكم في السوق لمعالجة الأسعار؛ ليوفر للشعب حياة كريمة, ومن هنا قرر أهل العلم أن للإمام أن يسعر متى ما دعت الحاجة إلى ذلك, وإن كان أصل التدخل في التسعير هو المنع, إلا أنه يستثنى من هذا الأصل إذا ما كانت الحاجة ماسة إلى التدخل الحكومي, ولا سيما إذا كانت أسعار السلع الأساسية باهظة جداً, بحيث ترهق العامة, وتلحق بهم الضرر, ومن القواعد الشرعية: "ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما" وقد أشرت في مقال سابق إلى واقعة مهمة نقلت في بعض كتب التاريخ والسير, مفادها: "إن الخليفة المقتدر بالله العباسي حين تظلم الناس من زيادة الأسعار, وهاجوا, ونهبوا دكاكين الدقاقين, تقدم المقتدر بالله بفتح الدكاكين والبيوت الخاصة بالدولة ووجهائها, وباع الحنطة والشعير بأقل من سعر السوق, فانخفضت الأسعار, ورضي العامة وسكنوا" وفي الحقيقة أن هذه الواقعة القديمة صورة من صور الدعم الحكومي للسلع, حيث كانت منافسة الحاكم لأهل السوق عاملاً مؤثراً في رجوع الأسعار إلى وضعها الطبيعي, ولا ريب أن الدعم الحكومي للسلع والخدمات فيه حماية لاقتصاد البلد, كما أن فيه معالجة لبعض صور التضخم الذي يلحق الضرر بمتوسطي الدخل, فضلاً عمن دونهم.