قمة حوار الحضارات
القراءة الأولية للخطوة المهمة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بالالتقاء بالبابا بنديكتوس السادس عشر في الحصن المقدس للمسيحية الكاثوليكية الأوسع والأكبر الفاتيكان، تشير إلى مرحلة جديدة ومتطورة للسياسة السعودية الواعية جدا للأحداث والمدركة لأبعادها والقادرة على التعامل معها بأسلوب الاحتواء الإيجابي، فهذا اللقاء التاريخي، فعلا كما يوصف، لا يمكن عزله عن تداعيات الشرخ الخطير الذي أصاب العلاقة الإسلامية – المسيحية، وهما أكبر ديانتين على وجه الأرض، والذي توسع بعد أحداث أيلول (سبتمبر) الشهيرة في الولايات المتحدة عام 2001 عبر ما سمي الحرب العالمية ضد الإرهاب وتداعياتها الخطيرة على العالم الإسلامي إن كان من ناحية شن حملات دعائية لتشويه الدين الإسلامي باعتباره دين عنف وإرهاب وكراهية للآخر، أو استهداف جزء من العالم الإسلامي بعمل عسكري مباشر كما في أفغانستان وغزو العراق واحتلاله بصرف النظر عن المبررات، وإطلاق يد الكيان الصهيوني بممارسة كل أنواع العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين دون الاهتمام بكل اتفاقيات "السلام" من أوسلو حتى الآن.
هذا الشرخ في العلاقة بين الديانتين الأكبر هناك من أراد تحويله إلى حالة صراع دائم وجعله نقطة افتراق لا تلاق على اعتبار أن الدين الإسلامي يرفض الآخر في عملية تزوير للحقيقة التي يدحضها الموقف الإسلامي من المسيحيين واليهود حين وصفهم القرآن الكريم بأهل الكتاب وكرم أنبياءهم بينما الآخر المسيحيون واليهود لا يعترفون بالإسلام ولا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا وجد دعاة الصراع في أحداث أيلول (سبتمبر) الحجة والذريعة لمحاولة تطبيق مقولة صراع الحضارات والثقافات والذي قصد به الصراع مع الإسلام كدين بالتحديد، ووجد فيها أصحاب نظرية العدو الدائم للحضارة الغربية السياسية والاقتصادية بالأساس من منظريها المتطرفين فرصة لتحويل نظريتهم من إطارها الأكاديمي إلى ممارسة فعلية على أرض الواقع في مواجهة ما اعتبروه الخطر الأخضر, أي الإسلام, بعد القضاء على الخطر الأحمر أي الشيوعية، وأخطر أدوات ومكونات هذا الصراع المستخدمة هو البعد الديني حين صور الأمر بأنه صراع بين الدين الإسلامي كونه يهدد بقيمة أسس حضارة الغرب السياسية والاقتصادية مستغلين التطرف الإسلامي بشعاره المرفوع الجهاد، وهو تطرف نتيجة رد فعل على ممارسات الغرب السياسية بالدرجة الأولى، وبين الدين المسيحي الذي أعطاه زخما دخول البابا بنديكتوس ذاته في إذكاء هذا الصراع بمقولته التي أثارت العالم الإسلامي بوصفه الإسلام بأنه دين قام ويقوم على العنف والحدة وعدم التسامح, على الرغم من تراجعه واعتذاره عما سماه إساءة فهم ما عناه. ولعل المملكة كانت دائما في فوهة هذا الصراع الموجه للإسلام باعتبار 13 من منفذي عمليات أيلول (سبتمبر) هم سعوديون ونتاج مذهبها الديني الموصوف بالتشدد بزعمهم، وعلى هذه الخلفية جاءت مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز بالذهاب إلى الفاتيكان لكي يقول ويوجه رسالة عملية للعالم المسيحي بأن ليس هناك موقف عدائي مسبق من الديانات الأخرى, خصوصا الدين المسيحي، وإذا كان هناك من صراع حقيقي فهو صراع سياسي وليس دينيا، فالإسلام تعامل مع المسيحية والمسيحيين منذ فجره حتى يومنا هذا بتسامح واحترام لكل ذوي عقيدة، وهو ما شهد به التاريخ, وأكبر دليل عليه هو بقاء المسيحية في الشرق الإسلامي والعربي واستمرارها رغم تعاقب الحكم الإسلامي على مدى قرون.
إذا ما كان هناك صراع إسلامي مسيحي, كما يريد تيار نشأ حديثا في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة تحت اسم "المسيحية الصهيونية" ورأس حربتها من يعرفون بـ "المحافظون الجدد" أن يرسخه لأسباب لها ارتباط بخرافات وأساطير توراتية وصهيونية مزيفة معروفة، فإن هذا الصراع من الجانب الإسلامي ليس له أي بعد ديني، فهذا الصراع في حقيقة الأمر صراع مع الغرب السياسي الذي كان فيه العالم الإسلامي دائما في حالة دفاع عن النفس تجاه الأطماع الخارجية ومنها الغربية، ولهذا فإن هذا الصراع أشعله الغرب منذ حملات الإسكندر المقدوني وحتى حملة جورج بوش العسكرية بالحروب الصليبية ومرحلة الاستعمار الغربي الذي ما زلنا نعاني آثارها حتى اليوم، فالإسلام لم يشن حملات استعمارية بنوازع إمبريالية على الغرب، بل حمل له حضارة وعلوما وثقافة أسس عليها الغرب حضارته المعاصرة التي ينكر البعض منهم أي دور لنا فيها، دون أن يفرض معتقده إلا بالقناعة والإقناع.
على هذه الخلفية المعقدة في العلاقة الإسلامية المسيحية وما تحاوله جهات معينة من استثماره لخلق حالة تأزم دائم، جاءت خطوة الملك عبد الله المعبرة عن روح المبادرة لديه في الذهاب إلى الفاتيكان كأول ملك سعودي يحمل صفة خادم وحامي الحرمين الشريفين ويمثل عالما إسلاميا واسعا ليمد يد الحوار وليس الصراع، وليصحح مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين بتصويرهم بصورة الإرهابيين والمتحجرين عقيدة وثقافة وسلوكا، ومجيء خادم الحرمين الشريفين إلى الفاتيكان خطوة لا بد أن تقابل بأحسن منها من جانب المؤسسات الدينية المسيحية، خاصة الفاتيكان بإبعاد البعد الديني عن أي خلاف وصراع، وعدم إعطاء الفرصة لمن يريد تأجيج الصراعات باستغلال الدوافع الدينية العاطفية، فالحروب الصليبية شنت باسم السيد المسيح، عليه السلام، بينما كان الهدف توسيع الإمبراطوريات وإضافة ممالك إليها.
زيارة الملك عبد الله للفاتيكان ولقاء البابا بنديكتوس داخل أروقته تعكس البعد الشخصي والسياسي للملك عبد الله، وأنه صاحب المبادرات المحسوبة داخليا مثلما هي خارجيا، وهو ما يحسب له حين أدخل على العمل السياسي السعودي حراكا تتطلبه المرحلة الحالية، فالملك عبد الله ذهب بنفسه إلى معقل المسيحية في العالم ليقول باسم المسلمين جميعا إن التعايش السلمي لا بد أن يقوم على قاعدة لا عداء ولا كراهية ولا رفض للآخر في عالم متعدد الأديان والنظم والثقافات.