جامعة الملك عبد الله.. وإعادة التاريخ (1)
إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا لتكون منارة ومنطلقاً للبحث العلمي في المملكة يعد خطوة ثابتة على طريق التقدم بين الأمم ولتعبر عن الرؤية الثاقبة لقيادة هذا البلد وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ ورعاه والذي ارتأى أن لا سبيل للمنافسة بين الأمم والشعوب إلا بامتلاك مفاتيح العلم والمعرفة، والتي كما ارتقت بالدول المتقدمة حالياً، ارتقت بأجدادنا سابقاً عندما كان لهم الجولة والصولة في ميادينها. فأنشأوا بيوت الحكمة ودور المعرفة وخمروا عباب البحار والمحيطات وعبروا البراري والقفار لاستجماع المعارف والعلوم من شتى أصقاع الأرض وليضيفوا عليها لمساتهم الخاصة والتي بقيت شاهداً على ذلك العصر الزاهي والذي تقلدنا فيها وسام الشرف في شتى العلوم والمعارف. وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية ما هي إلا بعث لهذا التاريخ وإحياء لتلك السنة بصورة عصرية تتفق ومتطلبات الحاضر وتستفيد من إمكانياته، ولتكون بحق مشعلاً تضيء الأمل بعهد مشرق يكون لنا فيه ولأبنائنا من بعدنا الريادة والسؤدد.
إنها حقاً رؤية ثاقبة تؤكد أن البقاء للأصلح وأن الوسيلة الحقيقية للتقدم لا تكمن فقط في امتلاك أكبر موارد العالم من الطاقة وأعلى المباني وأسرع الطرق. وإنما يكمن ـ حسب رؤية القائد ـ من خلال أبواب العلم والمعرفة وتنمية العقول وحفز طاقاتها لتبدع المستحيل ولتقلب المعادلات وتعيد التاريخ مرة أخرى. وإذا كانت جامعاتنا قد بنيت على هذا الأساس من قبل فأنشئت لتكون ملتقى للعلوم والمعارف في شتى التخصصات، فإنها حادت عن هذا السبيل وشغلت عنه بما واجهته من مشكلات نتجت عن ضعف التخطيط وقصر الرؤية المستقبلية في ذلك الوقت لما سيكون عليه الوطن خصوصاً فيما يتعلق بالنمو السكاني الذي شهدته المملكة وبلدان المنطقة. فغدا حال جامعاتنا كحال القطاعات الاقتصادية الأخرى كالقطاع الصحي تراوح مكانها وتدور حول نفسها في سبيل لمواجهة هذا الطلب غير المتوقع على خدماتها. وهذا هو حال كل مرحلة من مراحل التنمية الاقتصادية كالمختبر الذي يتعلم فيه الباحث من التجارب السابقة بهدف الوصول إلى نتائج أدق. لذلك يجدر بنا الآن ونحن نؤسس لمرحلة قادمة نواتها جامعة الملك عبد الله أن ننظر قليلاً إلى الوراء ونتساءل عن العوامل التي أدت إلى ضعف أداء جامعاتنا والتي حادت بها عن الطريق المرسوم لها. ومعرفة ذلك ومحاولة تجاوزه في المرحلة المقبلة سيؤدي بلا شك إلى تحسين نتائج المرحلة المقبلة.
أولى هذه العوامل: النظام التبعي لوزارة التعليم العالي والذي تعمل به الجامعات السعودية. فعدم استقلالية الجامعات السعودية إدارياً من خلال تبعيتها لوزارة التعليم العالي أو مالياً من خلال تبعيتها للميزانية العامة للدولة والطريقة البيروقراطية التي تعد بها الميزانية والتي لا تتناسب مع طبيعة الجامعات تعد سبباً رئيساً في تراجع أداء الجامعات وانخفاض مستواها الأكاديمي. فقد بقيت الجامعات السعودية خلال الفترة السابقة مقيدة بالأنظمة والقوانين السارية، كالأنظمة المالية وأنظمة التعيين والترقية، مما جعل منها نسخة مكررة عن القطاعات الحكومية الأخرى. فارتقاء الموظف وعوائده المالية لا يرتبط بالإنجاز بقدر ما يرتبط بعدد من الشروط التي لا يتطلب استيفاؤها جهداً حقيقياً يصب في خانة الإنجاز الإداري. وهذا النظام البيروقراطي الذي اتسمت به الجامعات السعودية انعكس بشكل غير مباشر على الطريقة التي يفكر ويعمل بها أعضاء هيئة التدريس بالجامعة والذين من المفترض أن يكونوا أكثر قدرة على التفكير الإبداعي والخلاق والتفكير خارج الصندوق. ولكن هذه الأنظمة مع الزمن أدخلتهم داخل الصندوق وأغلقته عليهم وأجبرتهم على التفكير فقط في إطاره مما جعلهم لا يختلفون عن غيرهم من أبناء المجتمع البيروقراطي فقلت إضافتهم وعطاؤهم ـ إلا من رحم الله منهم ـ الذين قذفت بهم تلك الأنظمة نفسها إلى القطاع الخاص. فأصبحت الجامعات من غير لون ومن دون رائحة في الوقت الذي من المفترض أن تكون مرحلة لإطلاق العنان للتفكير والإبداع سواء للطلاب أو أعضاء هيئة التدريس، أصبحت ببساطة مرحلة تعليمية لا تختلف عن مراحل التعليم العام الأخرى وأصبح خريجوها رقماً يضاف فقط إلى أعداد الخريجين.
لذلك فإذا ما أردنا لجامعة الملك عبد الله أن تحقق رؤية القيادة ولتكون منارة ومنطلقاً لمرحلة تنويرية جديدة فيجب تحريرها من جميع القيود والأنظمة الحكومية السارية حالياً وإلا حكم على هذا المشروع الحضاري بالموت قبل أن يولد. وحسب ما أعرف فهذا هو التوجه الذي رسمه لها خادم الحرمين الشريفين والذي سارع إلى تخصيص وقف يكون ريعه للإنفاق على الجامعة. ولكن ما أخشاه أن تبدأ الجامعة بالدخول في مسار شقيقاتها مع إدراجها تحت إطار الميزانية العامة ومن ثم إلزامها بتبني جميع الأنظمة المالية لقطاعات الدولة الأخرى. لذلك فإنني أتمنى أن تكون طريقة تمويل الجامعة مختلفة بحيث تكون وفقاً لنظام (المنح المعادلة) Matshing Grants، حيث يتم ربط التمويل الذي تحصل عليه الجامعة من ميزانية الدولة بمقدار العوائد التي تحصل عليها من الأوقاف والهبات والمنح وعوائد براءات الاختراع ورسوم الدراسة. حيث تمنح الدولة الجامعة في البداية مثلاً نسبة مقدارها 1000 في المائة من مقدار عوائدها الذاتية ثم تأخذ هذه النسبة في التناقص التدريجي حتى تستطيع الجامعة بعد ذلك تمويل برامجها وبشكل كامل من عوائدها الذاتية. هذه الطريقة في التمويل العام ستساعد الجامعة على العمل بشكل مماثل لعمل منشآت القطاع الخاص الهادفة للربح ولتجعل زيادة التمويل ترتبط بشكل كبير بالإنجاز العلمي الذي تحققه الجامعة، مما يحفز الجامعة والعاملين فيها للعمل على استقطاب أكبر عوائد مالية ممكنة من خلال إنجازها البحثي والذي سينعكس بدوره على مقدار المنحة المتحصل عليها من ميزانية الدولة.