فتاوى أسواق المال.. والمخرج من الخلاف

[email protected]

تميز عصرنا الحاضر بالتقدم التقني في مجالات عديدة، ومنها التقدم في المجال الإعلامي، وتنوع وسائل الاتصال الحديثة، وقد كان لهذه التقنية جوانب إيجابية كثيرة، ومنها توظيف هذا الإعلام في خدمة العلم الشرعي، بأسلوب التعليم، أو الإفتاء..، مما أدى إلى تذليل الكثير من العقبات، حيث أصبح العلم يصل بكل يسر وسهولة إلى فرد الأسرة وهو في بيته، وإلى السائق وهو في سيارته، وإلى الموظف وهو في عمله، وإلى التاجر وهو في متجره، وهذا بخلاف ما كان عليه الحال في أزمنة سابقة، حيث كان المستفتي يرحل أحياناً من أجل مسألة! والواقع أن هذه الوسائل الإعلامية، مع ما فيها من فوائد جمة، ومصالح راجحة، إلا أنها كانت سبباً في بث العديد من الفتاوى المختلفة في المسألة الواحدة، مما أدى إلى وقوع اللبس لدى العامة، حتى ظهرت الحيرة على محياهم، وبدا القلق على ملامح وجوههم، لاسيما في قضايا المال، الذي هو عديل الروح عند كثيرين! ولا شك أن المستفتي عليه أن يسأل من يثق به، ممن يغلب على ظنه أنه من أهل العلم والدين، كما قال الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه:"وإذا قصد أهل محله للاستفتاء، فعليه أن يسأل من يثق بدينه، ويسكن إلى أمانته عن أعلمهم وأمثلهم، ليقصده ويؤم نحوه، فليس كل من ادعى العلم أحرزه، ولا كل من انتسب إليه كان من أهله" وبناء عليه، فإنه لا يصح أن يستفتي العالم إذا كان فاسقاً، ولا العابد إذا كان جاهلاً ولو كان إماماً لمسجد أو خطيباً لجامع، ولا أن يستفتي طالب العلم في بابٍ لا يحسنه، فلا يُسأل مثلاً في باب المعاملات المالية المعاصرة من لا يحسن فهمها، أو لا يدرك واقعها، أو لا يحيط بتفاصيلها المؤثرة في الحكم، ولو كان من يقصده الناس شهيراً، بحيث يقصد لشهرته لا لعلمه، كما حذر من ذلك العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين، حيث قال: "وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل.. قد غرهم عكوف من لا علم عنده عليهم، ومسارعة أجهل منهم إليهم..فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل، فتيا، أو قضاء، أو تدريس، استحق اسم الذم، ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه، هذا حكم دين الإسلام" ومن هنا ذهب المحققون من أهل العلم إلى أنه لا يجوز العمل بمجرد فتوى المفتي إذا علم المستفتي أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه لو كان خصماً قضاء القاضي له بذلك، قال ابن القيم: "ولا يظن المستفتي أن مجرد فتوى الفقيه تبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال في الباطن، أو لشكه فيه، أو لجهله به، أو لعلمه جهل المفتي، أو محاباته في فتواه، أو عدم تقيده بالكتاب والسنة، أو لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه، وسكون النفس إليها". ولهذا أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للعامي أن يتتبع رخص الفقهاء، كما صرح بذلك الحافظ ابن عبد البر، قال الإمام أحمد رحمه الله: "لو أن رجلاً عمل بكل رخصة كان فاسقاً" وقال الإمام الغزالي رحمه الله: "لا يجوز للمستفتي أن يأخذ بمذهبٍ بمجرد التشهي، أو أن ينتقي في كل مسألة أطيبها عنده". ومن جليل ما نقل في سدّ ذريعة الترخص، ما رواه الإمام البيهقي في سننه الكبرى عن إسماعيل القاضي (ت282هـ) أنه قال: (دخلت على المعتضد (ت289هـ) فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنَف هذا زنديق. فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رويت، ولكن من أباح المسكر ـ أي النبيذ- لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ بها، ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب. فإذا تقرر أنه لا يجوز تتبع الرخص، ولا تلقط الزلل، فما المخرج من تضارب الفتوى في القضايا المتعلقة بسوق المال، أو غيره؟
ذكر العلامة ابن القيم الخلاف في هذه المسألة، ثم رجح القول: بأن المستفتي عليه أن يتحرى أرجح القولين، وأن يتحسس أصح الرأيين، كما يعمل المريض عند اختلاف الطبيبين في تشخيص مرضه، أو في تحديد أسلوب علاجه، فكما أنه يجتهد في اختيار الطبيب الحاذق في طبه، فكذا يجتهد في اختيار الفقيه الأعلم في مجال تخصصه، فيأخذ برأيه. فإن ترجح له قول أحد المفتيين لكونه الأعلم الأورع، أخذ بفتواه، فإن استويا في العلم والورع، أو شق عليه معرفة الأعلم منهما، ولكن ما استدل به أحدهما أقوى في الحجة وظهور الدليل مما استدل به الآخر أخذ به، أو كانت نفسه تسكن لفتيا أحدهما ويطمئن لها قلبه دون فتيا الآخر أخذ بهذا المرجح، وكذا لو ترجح له قول أحدهما لكثرة من أفتى به من أهل العلم أخذ به، وهكذا يستدل بهذه القرائن أو المرجحات على أرجح القولين. قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ موجهاً هذا القول (وقد نصب الله سبحانه وتعالى على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ الله سبحانه وتعالى بين ما يحبه وبين ما يسخطه من كل وجه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، ولا بد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق، مؤثرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة" هذا، وإن مما يقلل الهوة بين الآراء، ويسهل على الناس أمر الاستفتاء، توفير هيئة علمية متخصصة في مجال الفتوى في أسواق المال، وإذا كان هناك من هو متخصص في مجال الفتوى في العبادات ونحوها، فالحاجة اليوم ماسة وملحة جدا إلى توفير هيئة علمية متخصصة في مجال الفتوى في قضايا أسواق المال، لتصدر الفتوى منها بالإجماع أو بالأغلبية، وبهذا نمهد للمستفتين طريق الفتوى، ونقلل من حجم الحيرة التي نراها في وجوه العامة، ولكن بشرط أن تكون الهيئة مستقلة، وأن يكون أعضاؤها على دراية جيدة بفقه المعاملات المالية المعاصرة، بحيث تكون محل ثقة الجميع، وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي