همسة في أذن القاضي وصيحة في أذن الباغي
لا عجب أن يقسو الحيوان على فريسته, لأن سنة الحياة البهيمية تملي عليه أن ينقض عليها, فيعضها بأسنانه ويقضمها بأنيابه ثم يلتهمها, فتتدحرج في أمعائه لتستقر بين شحمه ولحمه. ولا عجب أيضا أن يقسو الآدمي على بني جنسه, فيكسر السن ويفقأ العين أو يرض الرأس بين حجرين, إذا كان ذلك الآدمي لا يؤمن بالله واليوم الآخر, وإنما العجب كل العجب, أن تكشر القسوة عن أنيابها, وأن تقع الغلظة بكل أشكالها, ممن يوقن بالحساب ويؤمن بالعذاب, فتمارس الوحشية بأبشع صورها مع أضعف خلق الله, ليس مع الحيوان, كلا, ولكن مع الإنسان, لا بل أضعف إنسان, وأصغر إنسان وأجمله وأبهاه, وهو الصبي الذي ترى الطفولة في وجهه وتقرأ البراءة على محياه.
حقا, إننا في زمن الإبادة, وعصر الوحشية حتى تبلد الإحساس من مشاهد العنف التي نراها صباحا ومساء, وأضحت قنوات الأخبار وبرامج الفضائيات, لا تطل علينا إلا بصور الضرب والقتل والترويع, وهي مشاهد تورطت فيها دول محتلة متسلطة, وتنظيمات متطرفة, ويزيد الأمر دهشة حين يتسلل العنف إلى بعض الأسر والبيوت المسلمة, فيطل عليها برأسه البغيض لينهش النفس الوادعة والمرأة الضعيفة والطفلة البريئة.
يا لله العجب! لم تكد تغيب عن أذهاننا حادثة طفلة الطائف "رهف" الجريحة ذات الأعوام الثمانية, حتى أطلت علينا مأساة طفلة عرعر "بلقيس" المعذبة ذات الأعوام السبعة, وهي ترقد على سرير المشفى, وتتوسد فراش الألم, بعد أن تجرعت غصصا من الإهانة والضرب والتنكيل والترويع حتى أصبحت كالجثة الهامدة, بظلم امرأة أبيها التي تلطخت يدها بالجناية, وتلوثت أناملها بالجريمة ـ كما جاءت قضيتها في قناة "الإخبارية" صوتا وصورة ـ لتنقل إلى العالم أجمع قصتها الحزينة, ومأساتها الأليمة, فتكتب القصة بدموعها الطاهرة وتملي المأساة بدمها الزكي, عسى المجتمع يستفيق ويرعوي فيدافع عن كل طفل تخلى عنه أبواه أو أحدهما, فأصابته يد الغدر والخيانة ومرغته يد البؤس والشقاء.
كم هو عظيم عند الله تعالى أن تمارس الجريمة ضد طفلة بريئة, لا ترى في الحياة إلا اللهو واللعب, ولا تريد من الدنيا إلا الدلال وعلبة الحلوى, ولا يشغل بالها إلا العروس, تعبث بها, وتتلهى بأنوثتها, ثم يأتي من يقلب حياتها الجميلة رأسا على عقب, فيحيل اللعب إلى نصب, والحلوى إلى بلوى, والعروس إلى كابوس, ويقلب مصطلحات الطفولة إلى أضدادها, فتنقلب إلى جحيم لا يطاق, فمن لبلقيس بعد الله؟ من لها يا عباد الله؟ من لها ولمثيلاتها من المعذبات من أهل الغيرة والنخوة؟ من لهن من أهل المال والجاه والحظوة؟ من لهن من أهل الشهامة والمروءة؟ من للأيتام الذين تخطفهم البؤس والحرمان؟ من للأطفال المشردين الذين تنكرت لهم الدنيا وتفرقت بهم السبل حتى أضحوا حيارى على هامش الحياة؟ من لهؤلاء من أولئك الذين نحتت قلوبهم من حجر؟ كلا, بل الحجر نحت من قلوبهم المملوءة حسدا وحقدا, فتشكل منها جبالا سودا؟
إننا نعلم جيدا أن هذه الحوادث المروعة التي يتهشم فيها رأس الطفلة بلوح من خشب, أو يكوى فيها جسدها الطاهر بصفيح ساخن.., أن هذه الفظائع لا تكون غالبا إلا في منزل خلا من أب رحوم أو أم حنون, وهنا تكون الطفلة المسكينة تحت رحمة زوجة أبيها أو زوج أمها، وغالبا ما تعاني الأمرين بسبب سوء المعاملة، ولا سيما في بعض حالات الطلاق، حيث تكون الطفلة ضحية التعنت والشقاق الواقع بين أبويها، وكثيرا ما تستغل زوجة الأب هذا الموقف، فتوظفه في شحن الأب ضد زوجته وولدها، ومن هنا يسدل الستار عن العطف والحنان والرحمة في حياة ذلك الطفل المسكين، وتبدأ فصول الجريمة في صفحات حياته. وهنا أهمس في أذن كل قاضٍ جعل الحق بغيته والعدل ضالته ألا يستعجل في إصدار حكمه بالحضانة لأي من الأبوين حتى يتأكد بالقرائن من هو الأحق بها، الأم أم الأب، فإن الفقهاء ـ كما لا يخفى على متخصص ـ قد ذكروا قاعدة مهمة في هذا الباب، وهي أن الحضانة تكون للأصلح من الأبوين، حتى تدل البينات أو القرائن على عدم صلاح الآخر للحضانة أو على أن مصلحة المحضون في بقائه في كنف أبيه أو أمه، ومن ذلك ما إذا كرهت الطفلة العيش مع زوجة أبيها ورغبت البقاء مع أمها المتزوجة، ولم يرفض زوجها الحضانة، لم تسقط حضانة الأم لطفلتها، لأن سقوط الحضانة بالنكاح ـ كما في الحديث الشريف "أنت أحق به ما لم تنكحي" ـ جاء مراعاة لحق الزوج لئلا ينغص عليه الاستمتاع المطلوب، ويتنكد عليه عيشه مع المرأة، كما قرره ابن القيم في زاد المعاد (5/484) فإذا آثر الزوج حضانة زوجته لطفلها، وطلبه وحرص عليه، زالت المفسدة التي لأجلها سقطت الحضانة، لأن سقوطها بالنكاح ليس حقا لله، إنما هو حق للزوج والطفل وأقاربه، فإذا رضي من له الحق جاز، ثم قال ـ رحمه الله ـ بعد هذا "وظهر أن هذا الحكم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أحسن الأحكام وأوضحها، وأشدها موافقة للمصلحة، والحكمة، والرحمة، والعدل" أهـ.
وذكر ـ رحمه الله ـ من مبررات هذا القول: أن العادة قد جرت أن الأب يتصرف في المعاش، والخروج، ولقاء الناس، والأم كثيرا ما تكون في بيتها، وعينها عليها دائما، بخلاف الأب، فإنه غالبا ما يكون غائبا عن البيت أو في مظنة ذلك، وكل مفسدة يعرض وجودها عند الأم، فإنها تعرض أو أكثر منها عند الأب، فإنها إذا تركها في البيت وحدها لم يأمن عليها، وإن تركها عند امرأته أو غيرها فالأم أشفق عليها، وأصون لها من زوجته الأجنبية، ويشهد واقعنا اليوم لما قرره ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث تسلط كثير من زوجات الآباء على أطفالهم، حتى أضحت قصص العنف ضد هؤلاء الأطفال من أحاديث المجالس، وعلى كل لسان، ولا غرو، فقد ضعف الوازع الديني لدى كثير من الآباء، فضلا عن نسائهم، وامتلأت قلوب كثير منهن بالحقد والحسد إلا من رحم الله، وتفنن العديد منهن في ابتكار أنواع العذاب الذي تقشعر منه الأبدان تجاه أولئك الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة، وقصة بلقيس أعظم شاهد لهذا الواقع الأليم، والوقاية ـ كما قيل ـ خير من العلاج.
اللهم اهد ضال المسلمين، وردهم إليك ردا جميلا، اللهم من أراد أطفال المسلمين بسوء نية أو بخبث طوية، فأشغله في نفسه، وعاقبه بما يستحق، ونكله بواسع عدلك، وعظيم عقابك يا رب العالمين، آمين، آمين، آمين.