تأملات في السياسة الأمريكية
في الولايات المتحدة البيت الأبيض والكونجرس مؤسستان مستقلتان، إذ إن الدستور الأمريكي ميّز بينهما، حيث إن البيت الأبيض يمثل السلطة التنفيذية، أي الحكومة التي تدير الشؤون اليومية خاصة السياسية والعسكرية، أما الكونجرس فإنه يمثل السلطة التشريعية التي تسن القوانين التي على ضوئها تسيّر الحكومة الشؤون العامة ذات الطابع القومي أو الفيدرالي. ومع التسليم في صحة هذا التقسيم دستوريا وعلميا، أي في الواقع المُعاش في كثير من الأمور، إلا أنه يصعب التسليم بهذا الأمر في كل الحالات والظروف، ولعل الوقوف عند بعض الشواهد يدلل على هذا الأمر. عندما قرر الساسة الأمريكيون غزو العراق واحتلاله، بالتنسيق مع بعض الأطراف العراقية، لم يعترض الكونجرس على هذا التوجه، بل آزر ودعم الفكرة وأعطى الدعم السياسي والمعنوي، وبالفعل تم غزو العراق واحتلاله، وبعد ما يزيد على أربع سنوات من القتل والتدمير في العراق والقتل للجنود الأمريكيين نجد الكونجرس الأمريكي، الذي يغلب عليه في الوقت الراهن الديمقراطيون، يدعم هذه الحرب بموافقته على تمويل الحرب بمليارات الدولارات والتمديد لبقاء قوات الاحتلال في العراق، بل إن بعض أعضاء الكونجرس يرون أن خروج القوات الأمريكية قد لا يكون مناسبا ولا يخدم المصلحة الأمريكية، ويكفي أن نعلم أن قرار الكونجرس دعم الحرب منذ البداية هو الذي أوجد المناخ الاجتماعي الذي دعم بموجبه الشعب الأمريكي في هذه الحرب الظالمة، ويكفي أن نتذكر أن العلم الأمريكي قد رفع على البيوت الأمريكية ليلة بدء الحرب، ما يعني الدعم الشعبي المطلق المستند إلى دعم من المؤسسة التشريعية. هل يوجد تنسيق بين السلطة التنفيذية، وهو البيت الأبيض، والسلطة التشريعية، ممثلا في الكونجرس، خاصة في المسائل والقضايا الحساسة ومنها السياسة الخارجية؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن الدستور فصل بين السلطتين وأعطى السلطة التشريعية حق محاسبة ومساءلة الحكومة وتقييم أدائها على الصعيد المحلي والخارجي، وهذا يتمثل في لجانه المتعددة مثل لجنة السياسة الخارجية، لجنة الشؤون الاقتصادية، ولجنة القوات المسلحة، حيث تقابل هذا اللجان المسؤولين عن هذه الأمور وتطرح عليهم الأسئلة وتناقشهم بشكل حاد وصريح بما يتسق مع المصلحة الأمريكية العليا. ومن الأمثلة على دور الكونجرس ما حدث حين تم مقابلة قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال باتريوس والسفير الأمريكي في بغداد، حيث استمرت مناقشتهما ساعات طويلة وتم استجوابهما في موضوع التقرير الذي قدماه بشأن الوضع في العراق. التنسيق بمعنى أن يكون هناك اتفاق مسبق حيال موضوع من المواضيع لا يمكن القول به، لكن التنسيق القائم على تبادل الأدوار بين السلطتين بما يخدم المصالح الأمريكية العليا, فهذا أمر وارد, كما أن التحرك من قبل البيت الأبيض داخل الكونجرس ومع بعض الأعضاء بغرض إقناعهم بموضوع من المواضيع أمر مسلم به, ولذا نجد البيت الأبيض ينشط قبل عرض بعض المواضيع لإقناع من يراه بهدف الوقوف مع ما تراه الإدارة مناسبا ودعمه داخل الكونجرس لإصدار قرار يتسق مع توجهات البيت الأبيض.
استوقفني قرار الكونجرس الأخير, الذي قدمه النائب جوزيف بايدن بشأن تقسيم العراق إلى ثلاث دول على أساس عرقي ومذهبي, حيث تبنى الكونجرس قرار التقسيم إلى دولة كردية وشيعية وسنية, لقد تساءلت بعد صدور هذا القرار رغم أنه غير ملزم, لماذا لم يتحرك البيت الأبيض ضد هذا القرار قبل صدوره؟ وهل هذا القرار إكمال لقرار شن الحرب الذي أيده الكونجرس قبل أربع سنوات؟ وما موقف من تظاهروا في الفترة الأخيرة من أعضاء الكونجرس بأنهم غيروا رأيهم بشأن الحرب وأصبحوا معارضين لها في الوقت الراهن, خاصة الأعضاء الديمقراطيين الذين منذ فترة ينددون بالحرب ويدعون لسحب القوات أو جدولة الانسحاب على أقل تقدير؟ إن مواقف أعضاء الكونجرس إزاء التقسيم لا يمكن النظر إليها إلا على أساس تبادل الأدوار والتنسيق لها بصورة مباشرة ولكن عن طريق الإيحاء والإيماء والإشارات الضمنية, وكل هذه الأمور من السهل تحقيقها خاصة في بلد بلغ من المعرفة والنضج الشيء الكثير, فكيف إذا كان هم أعضاء الكونجرس بما لديهم من خبرة وحنكة سياسية ودراية بالسياسة الداخلية والخارجية؟ إن الاستراتيجية الأمريكية لا تقوم على أساس الفترة القصيرة بل على أساس المدى البعيد, وما يراد له أن يتحقق بعد 50 سنة يخطط له من الآن وترتب أوضاعه وتوضع لبناته ويفتح ملفه بشكل مبكر حتى إذا حان الوقت سهل التنفيذ, ومع أن تجربة أمريكا في العراق ثبت فشلها وواجهت الكثير من النكسات إلا أن تدمير العراق وإرجاعه مئات السنين إلى الوراء يمثل هدفا قد تبنى عليه أهداف أخرى في المنطقة يراد تحقيقها في المستقبل وإن لم يكن المستقبل القريب. لقد تساءلت حول توقيت قرار الكونجرس في هذا الظرف هل هو لتخويف دول المنطقة وابتزازها في شأن مؤتمر الخريف الذي دعا له بوش بغرض إرغامها على حضوره أم أنه قرار ليس من الضرورة تنفيذه في الوقت الراهن وفي عهد الإدارة الحالية؟ إن خصائص الشمولية وخلط الأوراق والمدى البعيد وتبادل الأدوار بين المؤسسات الرسمية الأمريكية كلها خصائص تجعل المرء يضع مجموعة احتمالات من الممكن أن الإدارة الحالية في البيت الأبيض تهيئها للإدارة المقبلة سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية, وهذا الأمر شيء مسلم به في بلد يضع أبناؤه المصلحة العليا للوطن فوق أي اعتبار. تأملت في السياسة الأمريكية فوجدت أن مجموعة من الأمثلة السائدة لدينا تنطبق عليها, فالمثل القائل "اضربه بالموت يقر بالشهادة" هذا مثل أجد أن أمريكا تستخدمه بكثرة حين المساومة والابتزاز للآخرين, أما المثل القائل "واحد يحلف واحد يستغفر", فهذا ما نجده من تصريحات متناقضة تصدر من المسؤولين الأمريكيين ومن الساسة ومن الكونجرس والبيت الأبيض, وهذا هو تبادل الأدوار الذي تجيده المؤسسة السياسية الأمريكية وتستثمره لصالح وطنها وأمتها.
إن رسم الأدوار وتبادلها من الأطراف كافة سواء كانوا في السلطة التنفيذية أو في السلطة التشريعية هو نضج سياسي تدعمه النظرة بعيدة المدى التي ربما تؤتي أكلها بعد حين, فهل نحن على دراية ووعي بآليات وأساليب وتقنيات السياسة الأمريكية النفسية والاقتصادية والاجتماعية؟