ليبراليون غاضبون

سال حبر كثير حين عرض "فريق طاش" حلقة "ليبراليون ولكن" جن جنون غلاة "الزكرت"، وهو المصطلح المحلي الأصلي لما أصبح متداولاً بيننا اليوم باسم "الليبراليون"، كما أفرط الصحويون في التعبير عن عبطتهم الغامرة إلى حد الهياج وكأنه قد أصابهم ما أصاب تلك العجوز التي كانت تجلس إلى جوار حلقات الدرس وتسمع المعلم يردد كل يوم على تلاميذه مثال: ضرب زيد عمرو، وذات يوم أخطأ المعلم وقال: ضرب عمرا زيد فقفزت من مكانها وهي تصرح بفرح: الحمد لله .. نصر الله عمرو واقتص له من زيد!!.
والنزال الكتابي والحديث الذي دار حول تلك الحلقة جعل المسألة تبدو كما لو أنها حدية رعناء على طريقة بوش الصغير، من ليس معنا فهو ضدنا، أو أنها تشفَّ حان أوانه .. إنما المسألة ذات مساس مباشر ببنيتنا العقلية، حساسيتها تجاه الضوء حين يسقط على المناطق المظلمة الدامسة أو الخربة فيها. فثمة ميل غالب فينا للوصاية على الآخرين، نخول بموجبه لأنفسنا الجمع بين المرافعة والقضاء، ندعي وننطق بالحكم في إقصاء للآخر بعنف حيناً وقليلاً بشيء من التهذيب.
الليبراليون الغاضبون مشوا شوط الغضب إلى تخوم التنزيه عن المثالب، والمغالطون منهم اعتبروا الحلقة نفاقا طاشيا تجاري وبعضهم اعتبرها فضيحة غير أخلاقية من باب كشف العورة وأن الأجدى بمسلسل تنويري أن يمسح جوخ الليبرالية وأهلها وأن يشير إلى أفرادهما كما لو كانوا جنساً من الملائكة!!
إن حجم الهياج "الزكرتي" الليبرالي مرده إلى أن مبضع الجراح مس العصب الحي ورفع مرآة كبيرة عكست المستور والمتستر عليه فجفل البعض من أن يرى الأجزاء الشائهة شكلاً أو مسلكا. بل ذهب بعض الهائجين من زكرت اليوم إلى أن ذلك لا يخرج عن كونه دعاية مضادة لليبرالية، وتنفيراً وتحقيراً وتشويه سمعه وأن تلك المشاهد غير المقبولة مجرد هجاء متعمد بدليل أنها لم تبرز ملمحاً إيجابياً لليبراليين، بل صورتهم أدعياء يثابرون فقط على التنفيس عن إحباطاتهم وعقدهم النفسية بالسهر واللهو الصاخب واللجاج الثقافي والسياسي وكيل التهم وتوزيع النعوت والعيش في الشعارات والانحياز للمارقين فحسب.
كما أن هناك من قام بتحميل الحلقة فوق ما تحتمل فراح يستدرج من أدبيات الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومن الأطروحات الفلسفية تعريفاً لليبرالية ونشأتها ومقاصدها والأبعاد التي تنهض عليها متخذاً من هذه الجرعة المعرفية المدرسية الاستعراضية وسيلة للتملص غير المباشر من التطرق إلى نقائص الليبراليين في أي مكان بما فيهم ليبراليونا وتشخيصها، وكأنه يقول بكلمات أخرى ما قاله بعض من هاجوا على من فضح المستور أنفسهم، وإن كان ذلك بالهرب من المواجهة وعدم الاعتراف أو كان من باب الأستاذية .. لأن تبجيلاً مثالياً لليبرالية يغمض عيناً ويفتح عيناً لا يعني غير أن الأستاذ أو المترفع عن الخوض في جسارة حلقة طاش عن بشرية الليبرالين وترابيتهم يرتكب ذات الخطيئة ذاتها في التضليل والمراوغة والتنصل من مواجهة وجوهنا بلا أقنعة.
وحتماً ما ينطبق على الهائجين من مداحي قمر الليبرالية، ينطبق على الصحويين في حربهم الضروس الطويلة ضد الحداثة والحضارة وضد تجليات العقل البشري علماً، تقنية، فكراً، فناً، وسلوكاً. وإذا كان موال الهجاء الصحوي قد ظل صاخباً طويلاً طويلاً، فالأحرى بالمنحازين للعصر والحداثة ألا تخيفهم الندوب والتشوهات حين توجد فيهم وإنما معالجتها بما وهبه الخالق لنا من عقل قادر على أن يدلنا على الوسيلة للخلاص مما يعيب. ذلك أن وظيفة الفن في الأساس، ليست حمل المباخرأ والتصفيق والإشادة بالإيجابيات والإنجازات ولا وظيفته الشجب والاستنكار والزجر لأنه يتحول آنذاك إلى خطب ومواعظ وهذا بكل تأكيد ليس مجاله ولا اختصاصه إلا لو كان في سياق العمل الفني نفسه. وبالتالي فوظيفة الفن، (إن كان لا بد أن يكون له وظيفة!!) أن يتسقط الخلجات ويسترق السمع إلى المشاعر ويترصد خطو الظل واللون والحركات والسكنات ويحدق بعين استخبارية مقوداً بإشعاع العقل ونبل الضمير وحساسية الوجدان لكي يرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع ويقول ما لا يقال بلغته وأدواته وإلا صار مهرجاً مخبولاً يصرخ في الناس وهو يشير إلى الشمس: انظروا .. إنها شمس .. إنها شمس .. وصدق جدنا المتنبي حين قال:
وليس يصح في الأفهام شيئ
إذا احتاج النهار إلى دليل

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي