أولويات استثمار عوائد النفط
شهدنا في الشهرين الماضيين تحركات محمومة على صعيد الاستثمار الدولي لصناديق الاستثمار السيادية التابعة لإمارة دبي وقطر من خلال اندماج بورصة دبي الفتية مع بورصة ناسداك المصنفة ثانية على مستوى العالم, في اتفاق مركب تم التوصل إليه لخدمة أهداف الطرفين وانتهى بفوز جميع الأطراف بما فيها هيئة الاستثمار القطرية التي ظفرت بحصة في "أومكس" النرويجية وحصة تفوق 20 في المائة من بوصة لندن للأوراق المالية، علماً أن صندوق دلتا 2 التابع لهيئة الاستثمار القطرية هو في المراحل النهائية للاستحواذ على سلسلة متاجر ساينزبري البريطانية للتجزئة والمواد الغذائية. وقبل ذلك بدأت شركة استثمار الصرف الأجنبي الصينية بحيازة حصص استراتيجية في بعض الشركات الأمريكية والأوروبية بما فيها شركة الملكية الخاصة الأمريكية "بلاكستون".
بداية، يبلغ حجم المبالغ الاستثمارية التابعة لصناديق الاستثمار السيادية، أي صناديق الاستثمار العامة التابعة للحكومات بين 1.9 و2.9 تريليون دولار تبعاً لتقرير الاستقرار المالي العالمي الصادر من صندوق النقد الدولي في الشهر الماضي, الذي أوضح أن هذا المبلغ هو أقل بأكثر من عشر مرات من مجموع الأصول المدارة من قبل المستثمرين المؤسساتيين في الأسواق المتقدمة والمقدرة بنحو 53 تريليون دولار. بيد أن من المتوقع أن يبلغ حجم أصول الصناديق الاستثمارية السيادية نحو 12 تريليون دولار بحلول عام 2012 بافتراض معدل إضافة للاستثمارات سنوياً بين 800 و900 مليار دولار من جراء ارتفاع أحجام الاستثمار وبإضافة عوائد الاستثمار السنوية.
كما أنه من غير المستغرب أن نشهد نمواً في صناديق الاستثمار السيادية, خصوصاً مع ارتفاع أسعار السلع الأولية التي تشكل الدخل الرئيسي لبعض الدول وفي مقدمتها النفط المملوك للقطاع العام. وأبرز مثال في هذا المجال صندوق الأجيال الكويتي الذي يعد من صناديق الادخار في الثمانينيات حين تم توفير نسبة من مداخيل النفط للأجيال المقبلة واستثمارها من خلاله كون النفط مصدر دخل ناضبا في النهاية, والهدف من الصندوق هو تحويل الموارد الناضبة إلى محفظة استثمارية متنوعة تحفظ حقوق الأجيال المستقبلية، أوليس من حق الأجيال المقبلة أن تجد عوائد اقتصادية مجدية لا تستهلكها الأجيال التي تسبقها بأنانية؟
وبلغة الأرقام، فإن المبالغ الاستثمارية للصناديق السيادية للمراكز السبعة الأولى تتبع لكل من هيئة أبو ظبي الاستثمارية بأصول بين 250 إلى 875 مليار دولار، يليها صندوق معاشات التقاعد النرويجي بنحو 308 مليارات دولار، ثم مؤسسة النقد العربي السعودي بأكثر من 250 مليار دولار مصنفة بين الاحتياطيات النقدية واستثمارات لجهات حكومية أخرى، هيئة الاستثمارات الكويتية بأصول تراوح بين 160 و250 مليار دولار، شركتا الاستثمار السنغفوريتان الحكوميتان السنغافورية بأصول تزيد على 200 مليار دولار، شركة استثمار الصرف الأجنبي الصينية بـ 200 مليار دولار، وصندوق استقرار عوائد النفط الروسي بنحو 127 مليار دولار. نستنتج، باستثناء المراكز الأربعة الأولى والمركز السابع للصناديق السيادية التي تعتمد في دخلها على تصدير النفط الخام، فإن صناديق الاستثمار السيادية التابعة لسنغافورة والصين ليس مصدرها عوائد النفط بل ربما تكون مصادر المداخيل الأخرى المدفوعة بتسارع النمو الاقتصادي كالضرائب والرسوم، الاحتياطيات النقدية، وغيرها. إذن، بدأنا نلاحظ تأثير ارتفاع أسعار النفط وفوائض الميزانيات الحكومية للدول المعتمدة عليه في ميدان الاستثمار العالمي من خلال استحواذ الدول النفطية على المراكز الأولى للصناديق الاستثمارية السيادية, في الوقت نفسه الذي نجد فيه الوجود القوي لسنغافورة والصين اللتين استفادتا من النمو الاقتصادي القوي في الأعوام الأخيرة.
والفرق الرئيسي مع سنغافورة والصين أن اقتصادات دول الخليج تعتمد في تراكم أصول الصناديق السيادية على فوائض ميزان المدفوعات الذي يرتفع بسبب ارتفاع الميزان التجاري من عوائد تصدير الخام بصورة أكبر من حساب رأس المال الذي يشتمل على رؤوس الأموال الأجنبية الواردة. لذلك، فإن العوائد النفطية المتعاظمة في الأعوام القليلة الماضية تم استخدامها لتسديد جزء من الدين العام، الإنفاق على مشاريع البنية التحتية، وتمويل برامج استثمارية سواء في الموارد البشرية كالتعليم أم رأس المال، إلا أن ما يزيد على ذلك لا بد أن يوجه إلى صناديق الاستثمار السيادية لتعظيم العائد من هذه الوفورات غير المستدامة نظراً لارتهانها بأسعار النفط التي تحددها قوى العرض والطلب في الاقتصاد العالمي. لذا، ليس من المستغرب أن يرتفع حجم الاستثمار الأجنبي في دول الخليج النفطية نظراً لوفرة رأس المال سواء من البنوك، رجال الأعمال، الجهات الحكومية وشبه الحكومية، أم سوق المال بجانب سهولة توفير العمالة سواء المواطنة أو الوافدة، وتمكن المستثمر الأجنبي من تسهيل استيراد التقنية وتبعاتها المرتبطة بالصيانة وقطع الغيار والدعم الفني.
وأخيراً، من الضروري أن تبدأ دول الخليج بلا استثناء إلى النظر مستقبلاً والتخطيط لمرحلة ما بعد النفط والغاز الطبيعي، فالتخطيط طويل المدى هو من أهم محددات النجاح للقرار الاقتصادي, كما أن التحوط لسنوات انخفاض أسعار النفط هو من علامات الحرص والمسؤولية وتوقع الأسوأ لتقليل أثر أي هزة قد تأخذ مكاناً. لذا، لنفكر في تخصيص أجزاء من عوائد النفط تذهب إلى صندوق استثمار للأجيال المقبلة، صندوق استثمار لاستقرار عوائد النفط، صندوق استثمار للصحة والتعليم، وصندوق استثمار للطوارئ، حينها سنعلم أن هناك تحوطاً للأسوأ وأن الطفرة الحالية ستؤتي أكلها، ولو بعد حين.