رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مراجع أم إنسان مريض؟

[email protected]

أضحكني صديقي حينما قال لي إن منسق الاتصال لمؤسسة خاصة يعاملني كـ"مراجع" رغم أنني المسؤول الذي أمثل الجهة المتعاقدة مع مؤسسته، أي أنني "العميل الذي يجب أن يسعي لتحقيق رضاي إن لم يكن سعادتي". وأضحكني أكثر عندما قال إنه علم فيما بعد أن هذا المنسق كان يعمل في قسم المواعيد في أحد المستشفيات الحكومية, واعتاد على معاملة "المراجعين" من المرضى.
إذن نحن أمام موظف اعتاد على "المراجعين" الذين يجب أن يعاملوا معاملة لا تليق بالإنسان إذ يجب أن يرونا العين الحمراء من ناحية, فرضاهم ليس غاية, إن لم يكن غضبهم هو الغاية لكي لا يراجعوه مرة أخرى، رغم أن المراجع - حسب ما أفهم من كلمة مراجع - يجب أن يرجع عدة مرات للجهة التي يراجعها لكي يكون مراجعا حقيقياً وإلا انتفت عنه صفة المراجع التي يرزح تحت تبعاتها.
يقول لي أحد الإخوة إنه أراد تسجيل موعد أعطاه إياه طبيب الإسعاف في أحد المستشفيات، وعندما راجع موظف المواعيد, قال له: راجع بعد شهرين لكي أضع لك الموعد لأنه لا يمكن أن أضع لك موعداً لأكثر من ثلاثة أشهر (أي أن الموعد أكثر من ذلك بكثير)، يقول حاولت مرة وأخرى ولكن دون جدوى, فخرجت وقلت الله يعينهم الظاهر أنهم يعانون ضغطاً كبيراً من المراجعين مقابل قلة الإمكانات رغم المليارات التي تصرف على وزارة الصحة ( لكن الظاهر جلها رواتب وبدلات )، لكن المفاجأة الكبرى عندما قرأت إعلاناً على قطعة من بلاستيك وضعت أمام أعين المراجعين من قبل مركز الأعمال في هذا المستشفى تحت شعار "نسعى لرضاكم" هذا نصها "يسرنا استقبال وإجراء عمليات العيون وعمليات الأنف والأذن والحنجرة دون انتظار، دون حجز مواعيد، دون تحويل، سرعة في الإجراءات على يدي نخبة من الأطباء الاستشاريين للإخوة المواطنين والمقيمين" وبالطبع كل ذلك لمن يدفع.
وهنا أدركت أن هناك إمكانات كبيرة متاحة, ولكنها ليست لي ولأمثالي من المواطنين محدودي الدخل، رغم أن حكومة خادم الحرمين الشريفين، أيًده الله، دفعت المليارات لتوفير المكان اللائق والأجهزة والمعدات والاستشاريين والفنيين لتوفير أرقى الخدمات الصحية للمواطن دون مقابل، على اعتبار أن الخدمات الصحية من الخدمات الأساسية التي توفرها الدولة لمواطنيها، ولكن أبى القائمون على هذا المستشفى وغيره من أجل بضعة ملايين تعود للمالية وبضعة أخرى تذهب كمكافآت للأطباء العاملين في مركز الأعمال، يقول من أجل تلك "البضعة" أبى هؤلاء أن ينعم المواطن الذي من أجله أنشئ هذا المستشفى وغيره بهذه الإمكانات لينعم بها فقط من يستطيع أن يدفع من المواطنين والمقيمين الميسورين.
مراكز الأعمال فكرة جميلة ورائعة، ولكن يجب أن نراعي الآثار الموازية لتلك المراكز، حيث يجب أن تكون أثرا موازيا إيجابيا ، كأن تصبح تلك المراكز معيارا لجودة الخدمات الصحية مقابل التكلفة المدفوعة، وأن تكون نموذجا للقطاع الصحي الخاص يقتدي بها ليقدم خدمات تفوقها جودة وسعرا، وأن تكون مرحلة تمهيدية لخصخصة القطاع الصحي وتطبيق نظام التأمين الصحي على الجميع ليحصل المواطن على الخدمات الصحية اللائقة في الوقت المناسب. أما أن تكون هذه المراكز سببا في تقليص إمكانات المستشفيات بالشكل الذي يجعل المراجع يعاني أكثر وأكثر، إذ عليه أن يراجع أكثر من مرة ليحصل على الموعد ويراجع أكثر من مرة ليصل للطبيب، ويراجع أكثر من مرة حتى يجد موعداً للعملية، فهذا أثر موازٍ غير مقبول إطلاقا.
نعم, غير مقبول أن نفرغ غرفا وأجهزة وأطقماً طبية لمن يدفع على حساب المواطن المريض صاحب الحق الأول بالخدمة، إذ لا يجوز بحال من الأحوال أن تبيع تلك المراكز ما لا تملك، فالأطقم الطبية والأجهزة والمعدات والمباني كلها تم توفيرها من قبل الحكومة الرشيدة لخدمة المواطن، وإذ بها تباع لغيره - بثمن بخس - وهو ينظر وينتظر دون ذنب اقترفه.
معاناة المواطن في المستشفيات الحكومية نتيجة انحراف مراكز الأعمال عن أهدافها زادتها قلة الاستثمارات في القطاع الصحي من قبل القطاع الخاص الذي أصبح يرى في هذه المراكز جهات تنافسية لا قبل له بها، فهي جهات عملاقة تقدم خدمات صحية لمن يدفع بتكاليف ضئيلة جدا لأنها تستخدم جميع إمكانات المستشفيات التي تم تأمينها لصالح المواطن، وبالتالي فإنها تستطيع أن تقدم جودة عالية بتكاليف أقل بعيدا كل البعد عن حساب التكاليف والأرباح (وذلك بسبب انعدام الميزانيات المدروسة)، أي أن سياستها التسعيرية غير قائمة على سياسات القطاع الخاص التسعيرية، وهذا أدى إلى عزوف الكثير من المستثمرين عن استثمار في القطاع الصحي، حيث تقلصت الاستثمارات لتوفير أسرًة علاجية في السنوات القليلة الماضية، وهذا بالطبع سيؤدي إلى فجوة بين الطلب والعرض لصالح الطلب مما سيرفع الأسعار بالمحصلة.
كلي ثقة بالقائمين على مراكز الأعمال بإعادتها إلى الجادة الصحيحة لتلعب دورها المنتظر في تطوير الخدمات الصحية في بلادنا، حيث تكون علاقاتها واضحة مع المستشفيات الخاصة فتنحصر في الجانب التكاملي لا التنافسي استعدادا لتحويل المستشفيات الحكومية إلى مؤسسات عامة تقدم خدمات صحية عالية الجودة بأسعار معقولة مما يرفع من جودة حياة المواطن والمقيم على هذه الأرض الطيبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي