رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


هل نستثمر العلوم الإنسانية في تشكيل شخصيات؟vvvvvvvvv

[email protected]

تمثل المواد الشرعية والعربية والإنسانية بشكل عام ركنا أساسياً من أركان العملية التعليمية في بلادنا وفي العالم العربي والإسلامي، كما أن الأنظمة التعليمية في كل أنحاء العالم تهتم بهذا النوع من المواد، لأنه من خلال مواد اللغة، ومواد العلوم الإنسانية يتم تشكيل الفرد معرفياً ووجدانياً وسلوكياً. وعند التأمل في طبيعة الكثير من المواد ذات الطابع الإنساني يتساءل الفرد عن النتائج والآثار المتوقع حدوثها عند الدارسين. لقد تأملت كثيراً في مواد الأدب، التاريخ، الجغرافيا، والمواد الشرعية كالحديث، التوحيد, والقرآن، وتساءلت:ماذا نريد أن نحدث من تغيير لدى الناشئة من خلال هذه المواد؟ هل نريد نقل المعرفة والمعلومات من الكتب والمصادر إلى الطلاب، أم أن الهدف تشكيل الأفراد في شخصياتهم ومشاعرهم، وعواطفهم، وبناء عقيدتهم؟ وهل الواقع السائد في مدارسنا يستهدف المعرفة فقط أم يستهدف المعرفة والوجدان معاً؟ وهل الآليات التي نستخدمها في عملية التقويم مناسبة لمعرفة ما تحقق من الأهداف وما لم يتحقق؟
مادة التربية الوطنية على سبيل المثال هل ندرسها بهدف معرفة الفرد الواجبات والالتزامات نحو الوطن، أم أن نحول هذه المعرفة إلى مشاعر واتجاهات إيجابية نحو الوطن يلازمها سلوك يعبر من خلاله عن هذه المشاعر والاتجاهات الإيجابية؟
إلمام الفرد بالمعلومة شيء جيد ومطلوب وأمر أساسي، لكن نقل هذه المعلومة من مجال العقل إلى مجال الوجدان ومن ثم السلوك هو الأهم. من الضروري أن يعرف الفرد أن النفايات توضع في أماكنها المحددة، ولا توضع مباشرة على أرض الشارع، لكن النتيجة التربوية التي نتطلع إليها أن يوجد شعور لدى الفرد يحترم هذه المعلومة ويشعر نحوها بالتزام، ومن ثم يتقيد بما درس وينفذه بحيث يضع الفرد النفايات في الحاويات ولا يرميها على الأرض .
دراسة التاريخ والأحداث المحلية والعالمية هل لمجرد الإلمام بتواريخ حدوثها، وما نتج عنها من دمار، وقتل كأن نقول الحرب العالمية بدأت عام 1939 وانتهت عام 1945 وألقيت فيها قنابل ذرية على نجازاكي وهيروشيما، أم أن ندرب عقل الطالب على التحليل واستخلاص العبر من هذه الحرب ونوجد مشاعر من نوع معين لدى الناشئ؟ يقول شاعرنا العربي أبو تمام:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا
وما هو عنها بالحديث المرجم
عند التأمل في هذا البيت نجد أن الشاعر يركز على أمرين مهمين ألا وهما المعرفة بالحرب وما يترتب عليها، مع الشعور بها ومآسيها، ومرارتها ولذا قال علمتم وذقتموا فالعلم الإلمام بمعلومات لكن التذوق يعني مواجهة الأمر أو الموقف والشعور بما فيه من آلام وصعوبات. ولذا نجد المثل يقول: "إن من يده في الماء ليس كمن يده في النار"، وذلك تعبيراً عن اختلاف المشاعر التي يحس بها الفرد. تأملت في مثال آخر من التاريخ ألا وهو غزوة أحد، هل المهم أن يعرف الطالب متى حدثت هذه الغزوة، وأين وقعت، وكم قتل فيها ؟ الإلمام بهذه المعلومات مطلوب، لكن الأهم أن يستثمر تدريس هذه الغزوة وما حدث فيها لإعادة صياغة وتشكيل شخصية الفرد خاصة في شأن الطاعة، والعلاقة بين الرئيس، والمرؤوس، وتنفيذ المعلومات، وتقبلها حتى ولو كانت خلاف ما يشتهيه الفرد .
هل دراسة الشعر أو القصة في الأدب لمجرد حفظ أبيات من الشعر، أو قراءة قصة، أم أن الهدف تحريك المشاعر, وربما إعادة صياغتها وتشكيلها؟ ماذا نتوقع من آثار تحدثها قصيدة إبراهيم طوقان حين يقول:
لقيتها ليتني ما كنت ألقاها
لقيتها وقد أثقل الإملاق ممشاها
هل مشاعر العطف، والأخوة آثار متوقعة بل مطلوب السعي إلى تحقيقها، وهدف من أهداف دراسة القصيدة, إضافة إلى تشكيل الذائقة وحاسة النقد وغيرها من الأهداف؟ أعتقد أن إثارة مشاعر العطف تمثل هدفاً أساسياً عند دراسة هذه القصيدة, وقد يكون لكل قصيدة هدف أو أكثر من هدف, كما أن ذلك صحيح بالنسبة للقصة أو الرواية، ما يعني أن مادة الأدب في مجمل مكوناتها يفترض أن تسهم بجانب المواد الإنسانية الأخرى في تشكيل الشخصية بكل مكونات المجال الوجداني.
ترى ماذا يحدث في الحقل التربوي إزاء علاقة المواد الإنسانية بشخصية الفرد؟ هل ممارسات المدارس والمعلمين وإجراءات التقويم تسمح بالكشف عن الآثار الناتجة في المجال الوجداني بالتحديد؟ وهل الممارسات التعليمية قبل ذلك تستهدف التأثير في المجال الوجداني أم أن الأنشطة والفعاليات التعليمية تركز على الناحية المعرفية؟ من خلال عملي في المجال التربوي واحتكاكي بالمعلمين والعاملين في الحقل التربوي يتبين أن التركيز من قبل المدارس والمعلمين على الناحية المعرفية, وبالأخص في مستويي الحفظ والفهم، ولذا نجد الأسئلة التي توضع في الاختبارات تأتي على شاكلة عرف، واذكر، وما الدليل، وما معنى. وهذا النوع من الأسئلة ينحصر في المجال العقلي القائم على التركيز فقط، وأؤكد مرة أخرى أهمية هذا الجانب، لكن أين نصيب المجال الوجداني ذي العلاقة بالمشاعر والاتجاهات والعقيدة؟
هل تسبر المدرسة من خلال آليات وأدوات التقويم التغيرات التي تحدث للطلاب في مشاعرهم، واتجاهاتهم وميولهم، ورغباتهم بدراستهم لموضوع أو مادة من المواد؟ المجال الوجداني رغم وجود الكثير من المواد التي يفترض أن تخدمه، وتوظف في تشكيله لا تحظى بذلك الاهتمام من قبل القائمين على العملية التعليمية في الميدان، مع أن سياسة التعليم والأهداف العامة، والخاصة للمواد تؤكد على المجال الوجداني في بعض مكوناته، لكن الخلل يأتي من العمليات، والإجراءات، والعمليات السائدة في الميدان داخل الفصل، والمدرسة بشكل عام. البحث عن سبب قلة الاهتمام بالمجال الوجداني تقودنا إلى الإشارة إلى الاهتمام العام في المجتمع بالناحية المعرفية على حساب المجال الوجداني، كما أن صعوبة التعامل مع المجال الوجداني في تشكيله أو في قياس التغيرات التي حدثت له تمثل سبباً من الأسباب، ولعل قلة الخبرة لدى المعلمين في التعامل مع المجال الوجداني، وعدم تدريبهم على آليات مناسبة سواء في وضع الأسئلة أو أي إجراء تقويم آخر يمثل سبباً من الأسباب المهمة.
المجال الوجداني يحتاج إلى أنشطة وأعمال وخبرات ومواقف متراكمة لتشكيله، وهذا في حد ذاته مشكلة تعترض عملية قياس المجال الوجداني، كما أن سرعة التغير الذي يمر به المجال الوجداني خاصة في مراحل النمو الأولى من عمر الإنسان تجعل عملية سبر ومعرفة التغيرات التي حدثت للفرد أمراً صعباً رغم عدم استحالته.
باختصار يمكن القول إن الاستثمار الأمثل للمواد الإنسانية يحدث عندما نحسن اختيار المحتوى وننفذ عمليات التدريس بالصورة المناسبة، إضافة إلى إعداد الكادر التربوي القادر على التعامل الجيد تربية وقياساً لهذا المجال.

أكاديمي تربوي سعودي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي