هذه الليالي الجليلة

[email protected]

في هذه الليالي الجليلة العظيمة تتوارى الكلمات وتتضاءل الاهتمامات الدنيوية، ويتجه الناس لخالقهم تعالى متضرعين خاشعين يدعون ربهم أن يتقبل صيامهم وقيامهم وأن يشملهم بواسع رحمته ولطيف عفوه ويكتبهم من عتقائه من النار، وأن يثبتهم على طريق الهدى.
إن ما يحرص عليه المسلمون في هذا الموسم العظيم امتثالا لأمر ربهم، إخراج زكاة أموالهم. فهي برهان على صدق إيمانهم، وسبيل لنجاتهم من شح الأنفس. فقد جبل الناس على حب المال والتعلق به، لأنه آلة تمتعهم بالدنيا ووسيلة بلوغ حاجاتهم منها. وشاءت إرادة المولى عز وجل أن يمتحن صدق إيمان عباده بالصدقة. وما بلغ أحد، بعد رسولنا، صلى الله عليه وسلم، منزلة سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه في صدق إيمانه، حيث نزل رضوان الله عليه عن جميع ماله، ووفى بتمام الصدق فلم يمسك شيئا سوى بالأحب عنده: الله ورسوله.
إن من مهلكات الناس – كما جاء في الحديث الشريف – شحٌ مطاعٌ. والبعد عنه يكون بتعويد النفس على بذل المال، وقهرها على مفارقته حتى يصير ذلك اعتيادا. والصدقات جميعها (الواجبة والتطوعية) هي طريق نجاة الناس والمجتمعات من خبث البخل المهلك. فهي تبعث في أنفسهم همم العطاء وتستحث في ذواتهم مواهب المروءة نحو بذل المكرمات وفعل الخيرات.
ليس هناك أفضل من فعل الخير إلا النفس التي فعلته والنية التي بعثته. والأمة التي يكثر فيها هذا الطراز من النفوس، تغنى بأسباب القوة، ودعامات المجد، ومواجيد الحب، وعزائم الخير، وتهب للحياة أشرف معانيها، وترقى بالإنسانية إلى أكرم قيمها. إن فعل الخيرات يدفع عن الأمة أبوابا من الشر كان يمكن أن يهز أمنها، ويغزو قلوب فريق منها بالشحناء والبغضاء. ولهذا وجب على الأمة أن تتعهد الطاقات في نفوس القادرين من أثريائها بما ينبهها ويثيرها وينميها على فعل الخيرات وأداء الصدقات.
واليوم تتعاظم أنواع من الأموال في حياة الناس، لم تكن لها في حياتهم السابقة هذه القيمة الكبيرة التي هي عليها الآن. ومن ثم فإن حكم زكاتها بحاجة إلى نظر فقهي جديد يتوافق مع المقاصد الكبرى لأحكام الشريعة. فمعظم ما قررته المذاهب الفقهية في تفاصيل أحكام الزكاة هو اجتهادي غير قطعي، وذلك بحسبما رجح لدى فقهاء السلف رضوان الله عليهم في زمانهم من فهم لعموم نصوص الكتاب ومن نظر فيما بينته السنة الشريفة. إلا أن تطور الحياة ووسائلها قد يدل على أن وراء نصوص الكتاب والسنة احتمالات أوسع مما فهمه بعض فقهاء السلف في بعض القضايا بحسب واقع الحياة في عصورهم. لا شك أن النص معصوم، أما الرأي فقابل لمزيد من الاجتهاد بحسب واقع الحال وعلاقته بحكمة التشريع ومقصده العام. ومن الأموال التي يرى بعض الفقهاء المعاصرين أنها تحتاج لعناية ونظر فقهي جديد:
- المال العام الذي يأخذ صفة التجارة. فالمعروف أنه لا زكاة على المال العام. لكن ماذا عن المال العام إذا يأخذ الصفة التجارية ويجرى استثماره في مشاريع اقتصادية منتجة، أليس للفقراء حق فيه؟
- الملكيات الشاسعة الكبيرة من الأراضي الفضاء التي تفيض عن حاجة أصحابها وتظل مجمدة سنوات طويلة دون تطوير وبناء، مما يحبسها عن صور الانتفاع ويمنعها من الدخول في دورة النشاط الاقتصادي، ويعطل استفادة المجتمع منها ويحرم استفادة من تشتد حاجاتهم السكنية إليها، بدعوى أنها ليست مرصودة للتجارة فكيف تعفى من الزكاة مثل هذه الممتلكات التي تبلغ قيمتها ملايين وربما مليارات الريالات، في حين تجب الزكاة على من معه مدخرات نقدية بعشرات الألوف من الريالات؟
ونحتاج أيضا لكي تؤدي الزكاة وظيفتها في المجتمع، أن نهتم بتطوير مؤسسات الجباية والصرف من الناحية الإدارية والفنية. فبجانب جباية الزكاة وجمعها، فإن الحرص على وصولها لمستحقيها لا يقل أهمية. إن طبيعة الحياة المعاصرة، تستدعي العمل من خلال منظومة مؤسسات متطورة من الناحية التنظيمية والإدارية، حتى يضمن المجتمع كفاءة تحصيل الزكاة من جميع الأموال الزكوية التقليدية والمستحدثة، ثم وصولها وتوزيعها على مستحقيها بطرق تدفع عنهم الفقر وتساعدهم على تحسين قدراتهم ووسائل كسب عيشهم، من أجل إخراجهم من دائرة الفقر حتى لو بعد حين من الزمان.
وإذا كان فقهاؤنا المعاصرون قد أجازوا دفع الزكاة للجمعيات الخيرية التي تتولى رعاية الفقراء والمساكين عن طريق توفير ما يحتاجون إليه من خدمات الغذاء والرداء والسكن والتعليم والصحة ونحوه، فما الذي يمنع أن تستفيد هذه الجمعيات الخيرية من الطرق الإدارية والمالية الحديثة، وتحاكي إداريا وتنظيميا المؤسسات الخيرية الناجحة ( كمؤسسة عبد اللطيف جميل الخيرية، وبنك جرامين) في مهمة جباية وتوزيع الزكاة؟
إن الله عز وجل يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب، يعطيه المؤمن والكافر، البر والفاجر (كلا نمد هؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) الإسراء: آية 20 . ووجود المال في يد الإنسان ليس دليلا على فضله ولا خيره، وإنما الفضل والخير في بذل المال وإنفاقه فيما أمر الله تعالى به، ابتغاءً لما عنده عز وجل. ونحن اليوم نعيش أياما وليالي جليلة عظيمة على القادرين استغلالها والبرهان على صدق إيمانهم بإخراج زكواتهم والتصدق بفضل أموالهم عن طيب نفس، فما نقص مال من صدقة.
الشح آفة خطيرة قد تدفع من اتصف بها إلي الدم فيسفكه، وإلى الشرف فيدوسه، وإلي الدين فيبيعه، وإلي الوطن فيخونه. إن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء. اللهم تقبل من عبادك صلواتهم وزكواتهم وصالح أعمالهم.

أستاذ الاقتصاد - جامعة الملك عبد العزيز

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي