رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


نظام القضاء .. وماذا بعد؟

[email protected]

صدور النظام الجديد للقضاء يعد نقلة حضارية نوعية للمملكة ورافداً حقيقياً لمسيرة الإصلاح والتجديد والمعاصرة. فقد اشتمل النظام على تعديلات جوهرية كبرى كاستحداث المحكمة العليا وإنشاء محاكم متخصصة لتعمل بجانب المحاكم العامة في مجالات العمل والتجارة والأحوال الشخصية ولتشكل في مجملها الأساس الذي يعتمد عليه في حماية الحقوق الخاصة للناس وحماية الحقوق العامة للدولة. أضف إلى ذلك أن القرار السامي الكريم، وحرصاً على تحقيق هذا النظام الأهداف المتوخاة منه، دعم النظام القضائي بسبعة مليارات ريال لمواجهة متطلبات المرحلة المقبلة. وسيواجه النظام القضائي الجديد تحديات كثيرة ليحقق الأهداف المتوخاة منه ولينعكس بشكل إيجابي على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للدولة ومن ثم على رفاهية المواطن الذي يعد المحور الأساسي لعملية الإصلاح.
ولن أتحدث هنا عن التحديات المتعلقة بالشأن الجنائي والاجتماعي العام فلهذه المجالات متخصصوها الذين هم أكثر خبرة مني في ذلك. ولكن ما سأتحدث عنه هي التحديات المتعلقة بالشأن الاقتصادي العام التي يتوقع أن يواجهها النظام القضائي الجديد والتي تراكمت على مدى السنوات الماضية.
أول هذه التحديات تأسيس وتفعيل الدوائر القضائية المتخصصة وتأهيل القضاة للعمل بها، حيث يعاني النظام القضائي الحالي ضعفا واضحا في هذا المجال وفي تشتيت مهامه بين أكثر من جهة حكومية خارج النظام القضائي نفسه, خصوصاً في المجالات المتعلقة بالأمور المصرفية والتجارية. هذا الأمر أدى إلى ضعف واضح في عملية تنفيذ الأحكام القضائية وبطء في إنجاز القضايا واستصدار الأحكام وتنفيذها. والمتعارف عليه حالياً أن القضاة يعينون من خريجي كليات الشريعة ويقضون فترة من الزمن للعمل كملازم قاض قبل أن يبدأوا فعلياً في ممارسة مهامهم بشكل مستقل. هذه الطريقة في تأهيل القضاة كانت صالحة في زمن معين كانت فيه الأنشطة الاقتصادية محدودة. أما في الوقت الحالي فإن تعدد الأنشطة والانفتاح الاقتصادي وزيادة عدد الأنظمة المصدرة ودخول المملكة في اتفاقيات مع أطراف ومنظمات دولية أخرى، كل ذلك يتطلب نقلة نوعية فعلية في عملية تأهيل القضاة للتعامل مع مثل هذه المستجدات. وهذا يتطلب تفاعلاً سريعاً وإيجابياً من كليات الشريعة لأجل إعادة تصميم البرامج الدراسية لتستهدف تأهيل قضاة متخصصين في مسارات مختلفة من القضاء مثل القضاء الإداري والقضاء الجنائي والقضاء التجاري بفروعه المختلفة كالتأمين والمصارف والمنازعات التجارية الدولية والمحلية وغيرها. أضف إلى ذلك أن إعادة تصميم هذه البرامج يجب أن يرتكز على عملية التطبيق العملي للدارسين ليكونوا أكثر وعياً بما سيقدمون عليه بعد تخرجهم.
التحدي الآخر يتعلق بدور النظام القضائي في تقوية الوضع الائتماني القانوني في الاقتصاد وتعزيز الثقة بالمعاملات المالية بين الناس. وهذا الأمر يتطلب أمرين - أولهما : إعادة الوضع الاعتباري للشيك المصرفي الذي تراجع بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة ما سبب انعدام الثقة بشكل شبه كامل فيه، في حين يفترض أن يكون الشيك المصرفي ركيزة أساسية من أساسيات النظام المصرفي في الدولة ووسيلة مثلى لأداء الحقوق لأصحابها. وثانياً: تقوية الوضع القانوني للعقود، بحيث يكون النظام القضائي رافداً وضامناً لحقوق المتعاقدين وملزماً لأطراف العقد بتنفيذ التزاماتهم التعاقدية. هذا الأمر سينعكس بشكل إيجابي على تحسين بيئة الاستثمار في المملكة ومن ثم جذب الكثير من الرساميل الأجنبية التي يشتكي معظمها عدم وجود الضمانات حالياً لتنفيذ الالتزامات بين الأطراف المتعاقدة. أضف إلى ذلك أن تقوية الوضع الائتماني القانوني في الدولة سيؤدي إلى تخفيض مخاطر الاستثمار بشكل كبير. وعندما تنخفض مخاطر الاستثمار يستتبع ذلك انخفاض تكاليف التمويل وزيادة عوائد الاستثمار، ما يعد ميزة نسبية ستجذب الكثير من الاستثمارات في المملكة.
التحدي الأخير الذي أود الإشارة إليه يتعلق بعملية متابعة تنفيذ الأحكام القضائية. فمن دون آلية فاعلة لمتابعة تنفيذ الأحكام القضائية ومن دون تفاعل من الجهات التنفيذية الأخرى فلن يستطيع النظام القضائي الجديد تحقيق أهدافه المرجوة. وعملية التنفيذ تتطلب تفاعلاً سريعاً وحازماً في الوقت نفسه من الجهات المختصة بالتنفيذ كإمارات المناطق والشرطة لتمكين أصحاب الحقوق من الحصول على حقوقهم ولإعادة الثقة للمعاملات المالية التي تعاني حالياً انخفاض الثقة والريبة بسبب عدم تفاعل الجهات التنفيذية مع أصحاب تلك الحقوق, ما فتح المجال للكثير من ضعاف النفوس للتلاعب بحقوق الناس واستنزاف مدخراتهم المالية.
وأخيراً فإن صدور هذا النظام في هذا الشهر الكريم ليتضمن رسالة من خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ ومن قيادات هذا الوطن للعالم أجمع بأن شريعتنا الغراء قادرة على استيعاب كل المستجدات في حياة الناس, وفيها من المقومات ما يجعل النظام القضائي قادراً على مواكبة التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة في حياة الناس. ونسأل الله العلي القدير أن يوفق القائمين على أمور القضاء في المملكة لكل ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي