كفاءة أداء الأجهزة الحكومية والتنمية..
لا تنمية مستدامة دون قطاع خاص قوي يلعب دورا قياديا في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، قطاع يسهم في تنويع مصادر الدخل وتنمية الأعمال وتوفير الفرص الوظيفية وتوفير السلع والخدمات عالية الجودة مناسبة السعر، من هذه القناعة الراسخة أعلنت حكومتنا الرشيدة على لسان وزارة الاقتصاد والتخطيط في رؤيتها المستقبلية للاقتصاد السعودي بقولها "سيكون الاقتصاد السعودي بحلول عام 2025م متنوعاً ومزدهراً يقوده القطاع الخاص ويوفر فرص عمل مجزية وتعليما عالي الجودة وعناية صحية فائقة إضافة إلى المهارات اللازمة لرفاهية جميع المواطنين وحماية القيم الإسلامية وتراث المملكة الثقافي.
هذا الموقف والاتجاه السليم للتصدي لمتطلبات التنمية يصطدم بعوائق كبيرة من قبل الأجهزة الحكومية التي تجعل المستثمرين في القطاع الخاص مهما كان حجم استثماراتهم يعاونون معاناة شديدة من طول الإجراءات وتعقدها الأمر الذي ينعكس سلبا على تكلفة استثماراتهم ودرجة مخاطرها مما جعل الكثير من المستثمرين يعزفون عن الاستثمار في كثير من المجالات لارتفاع درجة المخاطرة المقرونة بالمعاناة النفسية الشديدة وجعل المليارات تتجه لاستثمارات خارجية أو استثمارات محلية غير ذات قيمة مضافة إن لم يكن لها آثار سلبية على جودة وتكاليف بعض القطاعات كالقطاع العقاري حيث تتجه المليارات للمضاربات على الأراضي مما رفع أسعارها إلى أسعار كبيرة وهي مرشحة للمزيد من الارتفاعات في ظل المعطيات الحالية والتوقعات المستقبلية.
طول الإجراءات وتعقدها بالشكل الذي يجعل من اجتيازها نجاحا كبيرا بحد ذاته برغم ما يعلن عن تحقيق مراكز متقدمة حسب المؤشرات الدولية، أقول طول الإجراءات جعل الهيئة العامة للاستثمار كجهة حكومية ترويجية تبذل جهودا كبيرة، تعاني هي الأخرى في تحسين البيئة الاقتصادية السعودية لتكون أكثر جذبا للمستثمرين المحليين والدوليين، كما جعل المنتديات الاقتصادية التي أطلقتها الغرف التجارية والصناعية الرئيسية الثلاث تبذل جهودا كبيرة هي الأخرى ولكن دون نتائج حقيقية يلمسها المستثمر السعودي كما يلمسها عندما يستثمر في دبي المجاورة، وهذا لا يعني بالطبع التقليل من جهود الهيئة العامة للاستثمار أو جهود الغرف التجارية الصناعية وحتى جهود الشركات السعودية العملاقة التي تبذل هي الأخرى جهودا كبيرة ومشكورة من أجل تطوير وتوسيع أعمالها.
يقول لي أحد العاملين في صندوق المئوية الذي يمنح الشباب من الجنسين الراغبين في العمل الذاتي قروضا ليحولهم من طالبي إلى مزودي عمل، يقول برغم أن الصندوق متعاون من الهيئة العامة للاستثمار في تسهيل إجراءات من يوافق الصندوق على تمويل مشاريعهم إلا أنهم يعانون الأمرين في إصدار تلك التراخيص لدرجة أن عددا لا بأس به عدل عن مشروعه رغم الموافقة عليه بعد أن استغرق مدة طويلة لترخيصه دون فائدة، ويضيف أننا في حيرة من أمرنا فإذا كنا نحن نعجز عن مساعدة الشباب على ترخيص مشاريعهم فكيف يرخصونها الآخرون إلا إذا كانت هناك أساليب أخرى لا نعلم عنها .
أحد العاملين في إحدى الشركات العقارية يقول إن ترخيص مشروع عقاري متكامل يحتاج إلى أكثر من سنة من الركض والهرولة المصحوبة بين أروقة أكثر من جهاز حكومي تتفنن في التعقيد بدعوى حماية نفسها من الزلل، رغم أن البلاد على بدايات أزمة إسكانية نتيجة لفجوة متزايدة بين المطلوب والمعروض من المساكن .
الجميع متضرر من طول الإجراءات وتعقيداتها وتشعبها وتعدد جهاتها وتضاربها لدرجة أن معظم المراجعين يقولون نحن أمام موظف مفتي يفسر اللوائح والإجراءات على مزاجه اليومي فما يجوز اليوم لا يجوز غدا والتعسير السمة السائدة لأنها تعطي الموظف مكانته وترفع شعوره بالأهمية، ولسنا أمام موظف منفذ لأنظمة ولوائح وإجراءات بروح التيسير لتسهيل إجراءات إخوانه المستثمرين لتنخفض تكاليف مشاريعهم بما ينعكس إيجابا على نوعية وجودة وأسعار السلع والخدمات التي ينتجونها.
الجميع متضرر ولا حلول ناجعة، والكرة ضائعة بين الجهات الحكومية والخاصة، والتراشق بالاتهامات على أوجه، فكل يدعي أن الآخر هو السبب في التأخير، وبظني أن الأنظمة البالية والعمليات الإدارية العقيمة والجمود والتصلب في تلك الأنظمة وصعوبة تطويرها لطول إجراءات التطوير، إضافة لتكلس الكثير من الموظفين لسنوات طويلة في كراسيهم دون تطوير في معارفهم ومهاراتهم من خلال التدريب المستمر، أعتقد أن كل ذلك هو السبب، لدرجة أننا لمسنا في كثير من الحوارات أن الكثير من الموظفين القدامى يقاومون تطبيق التعاملات الإلكترونية في الأجهزة الحكومية التي يعملون بها لأنها ستفقدهم أهميتهم وقدرتهم على تحقيق الذات من خلال تركيع وتطويع الآخر المراجع.
وأعتقد أنه حان الوقت لفتح حوارات صحية تنطلق من واقعنا الاقتصادي والثقافي برعاية حكومية لكي نصل إلى حلول عملية قابلة للتطبيق تعكس المؤشرات التي نراها حاليا على أرض الواقع، وبظني أن رفع درجة الوعي لدى كافة العاملين في الأجهزة الحكومية بأهمية دورهم في تسهيل الأعمال وتحسين البيئة الاقتصادية عنصر حاسم في علاج تلك المشكلة المزمنة.