المواطن ومطرقة الاحتكار
وسطية الإسلام لا تقف عند حد العقيدة, أو العبادة, أو الفكر, بل حتى في مجال المعاملة, فالإسلام منح المسلم حق التملك – مثلا – موافقة للفطرة الإنسانية, وما تمليه حاجته إلى الأثمان أو السلع, ولكنه مع هذا قد نظم هذه الفطرة وهذبها, فلم يكبتها ويسلبها كما فعلت الشيوعية, ولم يطلق لها العنان كما فعلت الرأسمالية, بل أباحه في حدود الطرق العادلة التي لا ظلم فيها, ولا جور, ولا جشع, وحرمه فيما إذا كان من شأنه أن يمهد الطريق لأكل أموال الناس بالباطل, سواء بأسلوب الربا, أو الغش, أو الغرر, أو القمار... إلخ, وما أباحه الشارع من المعاملات أكثر مما حرمه, ولهذا كان الأصل فيها الحل, ولا يحرم إلا ما جاء الدليل بتحريمه.
وهكذا ما نحن بصدد الحديث عنه, وهو الاحتكار, فموقف الإسلام منه, كان موقفاً وسطياً, بخلاف موقف الرأسمالية والشيوعية؛ وذلك أن الرأسمالية قد أباحت الاحتكار لرب المال, لتتحقق له مصلحته الخاصة, وإن أضر بالمصلحة العامة, باسم التجارة الحرة, أما الشيوعية فإنها قد حرمته على الفرد, ولكن أباحته للدولة, فجعلت أموال الشعب نهباً لأطماع الساسة, وكان الإسلام بين ذلك قواماً, حيث منع الأفراد من الاحتكار, مراعاة للمصلحة العامة, فقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ) ومنع الدولة من التسعير لتترك السوق على سجيتها وطبيعتها التي يحكمها قانون العرض والطلب, فقال عليه الصلاة والسلام حين طلب منه بعض الصحابة أن يسعر حين غلا السعر في المدينة: (إن الله هو المسعر القابض, الباسط الرازق, وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) وقال في الحديث الآخر:(دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ولكنه في الوقت ذاته مكن الدولة من التدخل في السوق حين تقع بعض الممارسات الخاطئة التي قد تعصف بمدخرات الناس, كما لو وقع الاحتكار من بعض التجار, من أجل التلاعب بالأسعار, فإنه أجاز للدولة أن تتدخل بثقلها, فتخطم الغلاء بأسعار لها سقف أعلى محدد, لتكبح جماح الجشع الذي يملأ جوانحهم, وكذلك أعطى الدولة حق التسعير حين تمنح إحدى الشركات حق الامتياز؛ وذلك لئلا يتخذ هذا الحق مطية للأطماع التي ليس لها حدود.
لقد منع الإسلام الاحتكار؛ لأنه يغذي في النفوس الجشع, وينمي فيها الأنانية المفرطة, ويكرس الطبقية في المجتمع, وإنه لمن المؤسف حقاً أن نرى من بعض رجال الأعمال من يوظف حق الامتياز لصالح أطماعه, فيمارس سياسة النهب البطيء لأموال العامة, ولاسيما في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع- بل الخليج كله- واقع تضخم غير مسبوق, حتى أصبح المواطن البسيط بين مطرقة الاحتكار وسندان التضخم!! وإنه لمن المعيب حقاً أن يكشر التاجر عن جشعه في الوقت الذي يمر فيه المواطن بهذا الظرف العصيب.
إن أخلاق المسلم لا يمكن اختزالها في الابتسامة, أو في الكلمة الحلوة؛ كلا, بل الأخلاق منهج حياة, يظهر أثرها في الابتسامة الجميلة, والكلمة الطيبة, ولين الجانب, والتعامل الحسن مع الأسرة في البيت, ومع الناس في البيع والشراء, وفي التجارة بكل أشكالها, ولهذا جاء في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:( رحم الله عبداً, سمحاً إذا باع, سمحاً إذا اشترى) فيجب أن يمارس التاجر خلق السماحة مع الناس, ولا يستغلهم عند رفع الرواتب, أو أن يبتزهم بحق الامتياز؛ ليحقق أرباحاً عالية, تزيد عن الحد المعقول, وهنا ينبغي على المسؤولين أن يتفطنوا لهذه الممارسات, فيضعوا حداً لغلاء الأسعار, سواء بالتسعير, أو بإقناع كبار التجار بفتح شركات منافسة تقلل من حجم الأسعار- كشركات الأسمنت مثلا - أو حتى بتأمين الدولة بعض السلع أو المنتجات المهمة بأسعار معقولة, تقطع الطريق أمام المتلاعبين في السوق, وقد جاء في كتب التاريخ والسير أن الخليفة المقتدر بالله العباسي حين تظلم الناس من زيادة الأسعار, وهاجوا, ونهبوا دكاكين الدقاقين, تقدم المقتدر بالله بفتح الدكاكين والبيوت الخاصة بالدولة, وباع الحنطة والشعير بأقل من سعر السوق, فانخفضت الأسعار, ورضي العامة وسكنوا, وأصبحت منافسة الحاكم لأهل السوق عاملاً مؤثراً في رجوع الأسعار إلى وضعها الطبيعي, وأظن أنه من اليسير أن تؤمن الدولة مخازن حكومية في كل منطقة تلجأ إليها عند الحاجة فقط, وإن كنا نتفهم أن التضخم له أسبابه الكثيرة التي لا يمكن اختزالها في الاحتكار, ولكنه بلا شك من الأدوات المؤثرة في أسعار السوق, والله تعالى أعلم.