ثوابت الاقتصاد المحلي ورغبات الشركات العالمية
سجلت مؤشرات الاقتصاد الهندي نهاية القرن الماضي مستويات قياسية تبشر بنهضة اقتصادية، واجتماعية شاملة تنتظر الاقتصاد الهندي في المستقبل القريب، وممهدةً الطريق للارتقاء بالاقتصاد الهندي إلى مصاف الاقتصادات المتقدمة.
شجعت هذه المؤشرات الاقتصادية عددا ليس بالقليل من الشركات العالمية على مشاركة منظومة الاقتصاد الهندي في نهضتها عن طريق فتح قنوات استثمارية مباشرة في مجالات اقتصادية هندية عديدة.
من إحدى الشركات العالمية التي استثمرت في قطاع الصناعات الغذائية الهندية شركة المطاعم الأمريكية الشهيرة "ماكدونالدز". دخلت "ماكدونالدز" السوق الهندية في أواخر التسعينيات الميلادية من القرن الماضي، مدعومة بخبرتها الطويلة في التعامل مع أسواق ناشئة ومتقدمة مختلفة، وإمكانياتها الضخمة التي طورتها منذ تأسيسها في منتصف الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي.
اختارت "ماكدونالدز" آلية الامتياز للدخول في السوق الهندية عندما أعطت حق الامتياز لإحدى الشركات الغذائية الهندية. بدأت "ماكدونالدز" بافتتاح قرابة 30 مطعما في مختلف المدن الرئيسة الهندية، مع التمركز بشكل أساسي في كل من العاصمة السياسية نيودلهي، والعاصمة الاقتصادية مومباي على الساحل الغربي.
لم تكن عملية دخول "ماكدونالدز" في السوق الهندية بالمهمة اليسيرة. حيث لم تلبث أن طفت على السطح العديد من التحديات التسويقية والتشغيلية عندما عزف المستهلك الهندي عن شراء منتجات "ماكدونالدز" الشهيرة من الوجبات السريعة، كـ "بيج ماك"، و"ماك تشيكن"، مخيباً آمال "ماكدونالدز" في الانتشار، والاستقرار في السوق الهندية.
فمن جهة، تعتبر "ماكدونالدز" أكبر مستهلك عالمي للحم البقري، عطفاً على اعتماد خطوط إنتاج "ماكدونالدز" على اللحم البقري، كمادة أولية رئيسة لإنتاج معظم وجباتها. ومن جهة أخرى، يعتبر البقر كائنا مقدسا لدى شريحة كبيرة من الشعب الهندي، عطفاً على معتقدات الطائفة الهندوسية والتي تشكل قرابة 80 في المائة من تعداد السكان.
تمحور حجر الزاوية، إذاً، حول الكيفية التي ستتعامل بها "قتلة البقر" مع "عبدة البقر"؟
هل تتوقف "ماكدونالدز" عن قتل البقر؟ هذا يعني إيقاف خط الإنتاج الاستراتيجي. هل تستبدل "ماكدونالدز" لحم البقر بلحم الخنزير؟ هذا يعني أنها ستفقد قرابة 15 في المائة من حجم الشريحة المستهدفة، عطفا على أن المسلمين يشكلون قرابة 15 في المائة من أفراد الشعب الهندي. هل تخرج "ماكدونالدز" من السوق الهندية؟ هذا سيؤثر سلبيا في تنافسيتها في السوق العالمية. ما الحل إذاً لتفادي هذه التحديات التسويقية، والتشغيلية؟
طورت "ماكدونالدز" وجبة تعتمد على لحم الماعز بدلاً من لحم البقر، وأطلقت عليها مسمى "مهراجا ماك"، لتحل بديلاً عن "بيج ماك". كما طورت وجبة أخرى تعتمد على لحم الدجاج المذبوح على الطريقة الإسلامية "حلال"، و أطلقت عليها مسمى "تيكا ماك"، لتحل بديلاً عن "ماك تشيكن". و طمعاً في إرضاء ذوق المستهلك الهندي، أضافت "ماكدونالدز" مزيجا من التوابل الهندية الشائعة إلى مكونات كلا الوجبتين.
لم تتوقف عملية تطور المنتجات عند هذا الحد، بل تعدتها لتشمل نسخة من هذه الوجبات تعتمد على الخضراوات بدلا من اللحوم، وذلك تلبية لرغبة شريحة النباتيين الهنود، التي تشكل النسبة المتبقية من الشريحة المستهدفة.
لم تشفع كل هذه الوجبات الجديدة لـ "ماكدونالدز" في السوق الهندية، واستمر المستهلك الهندي في المقاطعة السلمية لمنتجات الشركة. حيث تمحور حجر الزاوية هذه المرة حول شبهات احتواء الزيت النباتي الذي تستخدمه "ماكدونالد" على مشتقات اللحم البقري، مما يعني احتمالية فقدان كل شرائح المستهلك الهندي من الهندوس، والمسلمين، والنباتيين.
اتخذت المقاطعة هذه المرة منهجية أكثر فاعلية عندما قام ثلاثة رجال أعمال أمريكيين، من أصل هندي، برفع دعوى قضائية على "ماكدونالدز" في عقر دارها، ومدعمة بنتائج مخبرية تثبت احتواء الزيت النباتي على مشتقات من اللحم البقري.
لم تلبث الدعوة طويلا في أروقة المحاكم الأمريكية حتى حكم لصالح رجال الإعمال وملزمةً "ماكدونالدز" ليس بدفع غرامة مقدارها عشرة ملايين دولار أمريكي فحسب، وإنما بإصدار اعتذار رسمي للسوق الهندية تعترف فيه بفشل مصداقيتها مع المستهلك الهندي.
لم تتوقف المقاطعة عند النطق بالحكم، بل تطورت لتتخذ أشكالاً هجومية وسياسية مختلفة. حيث انتقلت الأخبار سريعاً من قاعة المحكمة إلى العاصمة الهندية نيودلهي، دافعة مجموعة من المستهلكين الهنود إلى النزول إلى الشارع، ومهاجمة أحد مطاعم "ماكدونالد"، ومحدثة أضرارا مادية قدرت بنحو 50 ألف دولار أمريكي. تزامن هذا الهجوم مع اعتصام مجموعة أخرى من المستهلكين الهنود أمام مكتب رئيس الوزراء الهندي، بيهاري وآجيابي، مطالبة بإغلاق جميع مطاعم "ماكدونالدز" في السوق الهندية.
لم تجد "ماكدونالدز" من حل سوى إعادة هيكلة عملياتها التشغيلية والتسويقية بعد ستة أشهر من دخولها السوق الهندية بما يتوافق واحتياجات المستهلك الهندي، ولا يتعارض مع ثوابته ومعتقداته. جنت "ماكدونالدز" ثمار إعادة هيكلة العمليات بعد عدة سنين عندما احتفلت بافتتاح فرعها رقم 150 في السوق الهندية العام الحالي.
من أحد أهم الدروس المستفادة من تجربة مقاطعة المستهلك الهندي لمنتجات "ماكدونالدز" أهمية تنظيم مقومات منظومة الاقتصاد المحلي تنظيماً قانونياً، وعلمياً، وسياسياً بما يمكنها من استقطاب أكبر كمية ممكنة من جوانب الطلب للاستثمارات الأجنبية المباشرة بأقل كمية ممكنة من مقومات العرض لمنظومة الاقتصاد المحلي.
فالاستثمار الأجنبي المباشر في شكله البسيط هو معادلة بين طرفين. تقع منظومة الاقتصاد المحلي في الطرف الأول من المعادلة. وتقع منظومة الشركات العالمية في الطرف الآخر من المعادلة. لا يمكن لهذه المعادلة أن تكتمل دون تعاون كلا طرفي المعادلة.
حيث تقدم منظومة الاقتصاد المحلي مقومات عرض مستمدة من إمكانياتها واحتياجاتها. وتقدم منظومة الشركات العالمية، بالمقابل، مقومات طلب مستمدة من أهدافها الاقتصادية. يعمل كل طرف على تعديل احتياجاته، وأهدافه، وإمكانياته بما يتوافق واحتياجات، وأهداف، وإمكانيات الطرف الآخر. ومتى ما وصلت هذه العملية التوافقية إلى الحد الذي يسمح للمعادلة بالاعتدال، تبدأ العلاقة بين طرفي المعادلة.
من أهم التحديات التي تواجه عملية التوافق هذا التعديل في ثوابت منظومة الاقتصاد المحلي، والتي لا تقبل هذه المنظومة المساس بها، مهما كانت النتائج، وتحت أي من الظروف. وعندما تشعر منظومة الاقتصاد المحلي أن ثوابتها بدأت تمس من قبل الطرف الآخر من المعادلة، منظومة الشركات العالمية، فإنها لا تتوانى لحظة في إيقاف العملية التوافقية برمتها، تمهيدا لإلغاء المعادلة.