هل يعيد التاريخ نفسه في أحداث العراق؟
تتكرر الأحداث عبر التاريخ كلما وجدت الظروف المتشابهة حتى لو اختلفت وتباعدت الأزمان الفاصلة بينها, ولو تتبعنا أحداث التاريخ لوجدنا التشابه في ما بينها وذلك بسبب وجود الظروف والأوضاع الاجتماعية والسياسية المتماثلة حتى ولو كانت هذه الأوضاع وجدت في أزمنة متباعدة، فالحروب تقع بين الأمم إذا تهيأت الظروف التي تسببها، كما في الأطماع والخلافات على الموارد، كما تقع الحروب عندما يوجد أفراد على سدة الحكم في بلدانهم مغامرون وتحركهم النزعات العدوانية، وما الحربان العالميتان الأولى والثانية وما قبلهما من حروب وما بعدهما إلا مثال صارخ على هذه القاعدة.
الوضع العراقي الراهن حيث الاحتلال الأمريكي والاقتتال الداخلي لم يأت من فراغ, بل جاء بفعل الأسباب والظروف التي أشرنا إليها، حيث تدار أمريكا بسلطة ذات نزعة عدوانية ومغامرة إضافة إلى خاصية الجشع والرغبة في استنزاف ثروات الآخرين، هذا في الجانب الأمريكي، أما في الجانب العراقي فإنه توجد فئة تعتقد أنها مظلومة تحت النظام العراقي السابق، أي نظام صدام حسين, ويأخذون على ذلك النظام ما يعتقدون أنه تفرد بالسلطة, إضافة إلى الحروب التي دخلها مع جارتيه إيران والكويت, والنزعة الاستبدادية التي اتسم بها, كل هذه الأشياء وغيرها قادت أقطاب النظام العراقي الحالي إلى التحالف مع قوات الاحتلال قبل إسقاط النظام, وحتى الوقت الراهن. وإذا كان النظام السابق قد واجه حالات تمرد, وانتفاضات في الشارع العراقي, وإن لم يكن كل الشارع العراقي, إلا أنه وجد نفسه مضطراً إلى مواجهة هذا التمرد, وهذه الانتفاضات بما تقتضيه الحاجة لإعادة النظام, وفرضه بهدف تحقيق الاستقرار في أرجاء البلاد كافة.
منذ سقوط النظام, والعراق يمر بأوضاع اجتماعية, وسياسية, وأمنية بالغة الخطورة، ولا يمكن أن يقبلها الإنسان السوي لغيره من البشر، فكيف يقبلها لنفسه، ومع ذلك نجد من يبرر هذه الأوضاع المأساوية ويبحث عن المعللات، محملاً النظام السابق وزر هذه الأحداث، رغم أنه انتهى وأعدم رئيسه والكثير من أركانه. إذا كان الناس أو بعضهم قد تململوا في عهد النظام السابق وتمردوا، فما الذي يمنع من تململ الناس وتمردهم في الوقت الراهن، خاصة أن بلادهم تخضع للاحتلال ولجبروت قوة غاشمة تسمى الولايات المتحدة الأمريكية، ما الذي يمنع الناس في الوقت الراهن من مواجهة الاحتلال وإجباره على الرحيل من البلاد؟ وما الذي يمنع الناس من مطالبة النظام الحالي بتحقيق العدل, وتوفير الخدمات من كهرباء, وماء, ومدارس, ومستشفيات, وغيرها والتي كانت متوافرة, وحرموا منها منذ سقوط النظام السابق؟ وما الذي يمنع الناس من مواجهة التهجير القسري, وسياسة الفصل العنصري التي تطبقها أمريكا بالتعاون مع حلفائها، والكل يعلم تاريخ أمريكا في سياسة الفصل العنصري وخبرتها الناجحة في هذا الشأن.
رحل النظام السابق وجاء النظام الجديد مبشراً الناس بالرفاه, والخدمات, والعدل, والمساواة, وإذا بالناس تتبخر أحلامهم وتسوء أحوالهم، ويفقدون الأمن والاستقرار, فماذا تغير في حياة الناس إذا كان من تضامن مع الاحتلال جاء بحجة إنقاذهم؟ فهل حقق لهم شيئاً مما فقدوه أم أن ما تحقق مجرد أوهام وشعارات لا تسمن ولا تغني من جوع؟
الجميع عاش عبر الفضائيات وتابع التغيرات الجسام التي حدثت على أرض الرافدين من اقتتال, وهدم للبيوت, وتدمير لمدن كاملة على رؤوس أهلها، وانتهاكات لآدمية الناس, وزج لمئات آلاف في السجون، وجثث مجهولة الهوية يعثر عليها في كل يوم في الشوارع, وفي صناديق القمامة, وفي الأنهار, وتهجير للناس من بيوتهم, وتحولهم إلى مهجرين في بلدهم أو خارجه، وتحارب بين الإخوة, والأقارب، وجدران تفصل قسراً بين الأهل والجيران, مما فرق الشمل, وهذه آخر إبداعات النظام الحالي الذي جاء رافعاً راية الإنقاذ، أما احتمالية تقسيم البلد إلى دويلات فهذا أمر وارد, وقد يكون أحد الأهداف الاستراتيجية لقوات الاحتلال الأمريكية بغرض تعميم نموذج الفوضى, والتدمير على طول المنطقة فيما بعد لو نجح الاحتلال ـ لا سمح الله ـ في ذلك.
نصبت المحاكم لرموز النظام السابق وأولى هذه المحاكم محكمة أحداث الدجيل التي قتل فيها 145 ممن يعدون خارجين عن النظام، أما المحكمة الثانية فكانت محكمة الأنفال وذلك لأن النظام السابق قتل فيها الكثير من الأكراد الذين كانوا يهددون وحدة البلاد, ويسعون للانفصال حسبما يقوله النظام السابق وتؤكده تصريحات وأفعال قادة الأكراد، أما المحكمة الثالثة فهي محكمة الانتفاضة الشعبانية حين تصدى النظام لانتفاضة أهل الجنوب بعد حرب تحرير الكويت. وإذا كانت هذه المحاكم تمثل سعياً من النظام الحالي للاقتصاص للمظلومين، فماذا يمكن أن تسمى الحروب التي تشنها القوات العراقية مع قوات الاحتلال على المدن والقرى؟ ولعل أبرز هذه الحروب والمعارك معركة الفلوجة، والنجف, وحديثة, والموصل, والصقلاوية, وكربلاء, وبعقوبة.. إلخ حتى أن هذه الحروب أعطيت أسماء مثل البرق، الرعد, السيف الأحدب, والخنجر, والعشرات من الأسماء حتى جاءت عملية إعادة النظام التي أعلن عنها بعد زيادة القوات الأمريكية، ما ترتب عليه قتل وإعاقة وسجن وتهجير الكثير من الناس. ما الفرق بين ما كان يفعله النظام السابق وبسببه تم التحالف مع الأعداء لاحتلال العراق وفقد سيادته, وبين ما يفعله النظام الحالي بالتعاون مع قوات الاحتلال من بطش وفتك بالأبرياء؟! هل التصدي لاستبداد النظام السابق حلال والتصدي للاحتلال حرام؟ وهل المقابر الجماعية التي يتهم بها النظام السابق حرام؟ والجثث المجهولة حلال؟ وهل سجن مئات الآلاف حلال في ظل النظام الحالي وحرام سجن الناس في زمن النظام السابق؟ متناقضات يصعب على العقل السوي أن يفهمها خاصة حين يكون من يمارس هذه الأفعال هو من ينتقد أفعال النظام السابق. وأين من يمارس هذه الممارسات الشائنة من قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
العدل لا يتحقق بتشريد الناس وسجنهم وقتلهم، والحياة الكريمة لا تتحقق بحرمان الناس من الخدمات بل في افتقاد الأمن الذي هو أس الحياة. إن القائمين على النظام الحالي مطالبون بالتمعن في واقع العراق والمقارنة بين ما كان عليه في الأمس وواقعه اليوم، وعليهم ألا يستبعدوا أن ما حل بمن سبقهم من محاكمات, ومحن, وسجن, وإعدامات قد يحل بهم, فهذه سنة الله التي تتكرر معها الأحداث وتتشابه كلما وجدت الظروف والأسباب التي تحدثها حتى لو اختلفت وطالت الأزمان التي تفصل بينها، فهل نعتبر ونستقي الدروس من التاريخ؟ والحكيم من اتعظ بغيره.