الاستثمار الزراعي الخارجي .. تجربة يجب أن تنجح
بعد أن تفرش له الأرض وردا من قبل الوفود الترويجية للاستثمار الزراعي الخارجي يذهب المستثمر السعودي إلى بلدان تتوافر فيها الأراضي الزراعية الخصبة والمياة النهرية والمطرية الوفيرة، ويشتري الأرض وينطلق في عمليات استصلاح الأرض وزراعتها ظانا أنه سيجني الخير الكثير من بيع محصول وفير ينتجه في وقت قصير، ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن، فيحقق خسائر كبيرة نتيجة عقبات كثيرة وتكاليف لم تكن في الحسبان.
يعود هذا المستثمر بعد أن يبيع الأصول التي اشتراها بثمن بخس بعد تجربة مريرة ينقلها لرجال الأعمال ليصابوا بالإحباط ليغضوا النظر عن الاستثمار في هذا القطاع الذي لا يمكن الاستغناء عن منتجاته بحال من الأحوال. من جانبها تشعر الدول الطارحة للفرص الاستثمارية الزراعية بالإحباط أيضا لفشل المستثمر الأجنبي في تطوير استثمارات زراعية ناجحة ومستدامة تغذي أسواقها بالمواد الغذائية وتحرك أنشطتها الاقتصادية ذات الصلة، وتوفر الفرص الوظيفية لمواطنيها، وتسهم في استكمال بنيتها الزراعية التحتية من موانئ وطرق ومواصلات وأنظمة ري وغيرها.
كيف لنا أن نتجنب هذا الفشل المحبط للطرفين والمفضي لنقص في المنتجات الزراعية بالمحصلة من خلال تفعيل مبادرة الملك عبد الله للاستثمار الزراعي وذراعها التنفيذية "الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني" للاستثمار في مشاريع تستهدف تحقيق الأمن الغذائي والمساعدة على استقرار أسعار المواد الغذائية في المملكة؟
والإجابة عن هذا السؤال تستدعي البحث في أسباب هذا الفشل من خلال تحليل وتشخيص الوضع القائم وردود أفعال المستثمرين السعوديين حال طرح مثل هذه المبادرات المليارية التي تحفز المزارع ذا الخبرة، وبائع العطور والكفرات والعقارات الذي يمتلك المال ويفتقد الخبرة، والمضارب بالأوراق المالية الذي يسعى إلى المكاسب السريعة والكبيرة المدمرة لأي سوق ينشط فيه لسخونة أمواله.
المستثمر الزراعي السعودي الاستراتيجي مستثمر نادر، وتكاد الشركات والأفراد التي تصنف ضمن هذه الفئة تعد على الأصابع، وهؤلاء (شركات أو أفراد) يتمتعون بمعلومات ومعارف ومهارات وخبرات متراكمة ويطبقون منهجيات تجعلهم يجيدون حساب الحقل إلى البيدر، ولا تغريهم أي فرصة وإن أتقن مروجوها إبراز محاسنها وفرصها وإخفاء عيوبها ومخاطرها، فلا ريال يصرف قبل الدراسات والبحوث والمسوحات الميدانية التي تقوم بها مواردهم البشرية الداخلية والمؤسسات الاستشارية الخارجية التي بنوا معها شراكات استراتيجية ناجحة ووطيدة بالعمل معا في مشاريع متعددة عبر خط الزمن، وبالتالي فلا عنصر استثماري مهمل وإن كان صغيرا، وهو ما يجعل مشاريعهم أقرب إلى النجاح منها إلى الفشل وتسير حسب الخطط المرسومة لها إن لم تكن أسرع بأقل المشكلات التي عادة ما تكون مشكلات تشغيلية روتينية.
ندرة هذا المستثمر الاستراتيجي الناجح تترك فراغا لصالح المستثمر الزراعي الحديث الذي ينخدع بحجم الإغراءات الترويجية من الوفود الأجنبية الزائرة التي تسعى إلى استقطاب المال السعودي، خصوصا أن الإغراءات تقول في كثير من الأحيان بمجانية الأرض المقرونة بكثير من التسهيلات، فينطلق في صرف عشرات إن لم تكن مئات الملايين دون دراسات وبحوث ميدانية ودون تخطيط سليم قائم على فهم عميق لكل صغيرة وكبيرة، فما تلبث العوائق التي لا قبل له بها في الظهور واحدة تلو الأخرى ليعلن استسلامه ورغبته في الخروج بما يمكن له أن يحصل عليه مما استثمره من مال.
وليت الأمر يقف عند هذا بل يمتد "لمستنفع" ولا أقول "مستثمر" يرى المليارات المرصودة من قبل الدولة ليحدث نفسة بنيل جزء منها بأي طريقة كانت ليتحرك هنا وهناك عبر علاقات شخصية أو ارتباطات إقليمية أو غير ذلك، ومن خلال تصريحات إعلامية مبهرجة يطلق شركته الحديثة النشأة رغم أنه ليس له أي صلة بالزراعة وإن كان فبضع هكتارات هنا وهناك، وكل ذلك بهدف الدخول كمستثمر زراعي حديث استجاب لاتجاهات الحكومة من أجل الفوز بما يتحصل له من الملايين التي لن يصرف منها إلا النزر القليل في مشروعه الزراعي الخاسر مقدما، وعلى المتضرر اللجوء إلى القضاء، والمتضرر هنا الوطن والمواطن بكل تأكيد، وما مزارعو الغفلة الذي نهبوا الملايين التي منحها لهم صندوق التنمية الزراعي لتطوير مشاريع زراعية لهم ولم يقوموا بذلك إلا دليل قاطع على هذا النوع من المتطفلين على الأسواق كلما لاحت فرصة في أي سوق لتحقيق مكاسب كبيرة وسريعة من خلال استغلال الثغرات المتاحة في تلك الأسواق.
إذن نحن أمام مستثمر زراعي استراتيجي يشهد له تاريخه الناجح والناصع أنه محل ثقة وأنه قادر ـ بإذن الله ـ على أن يفي بما يعد، وأمام مستثمر حديث حسن النية والسريرة ولكنه حديث عهد باستثمار زراعي ويحتاج إلى توجيهات وتوعية ودعم فني وتقني قبل أن يستثمر، وآخر لا حيلة فيه إلا مقاومته من خلال وضع المعايير التي تستبعده وأمثاله, فالأمن الغذائي ليس مساحة للتجربة والخطأ والتلاعب من أجل حفنة من المال.
كلي ثقة بالقائمين على المبادرة، وبمن سيقود "الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني" بأنهم سيجعلون ثقة حكومة خادم الحرمين الشريفين بهم، وتحقيق الأمن الغذائي والمساعدة في استقرار أسعار المواد الغذائية في المملكة نصب أعينهم، وأن يتجهوا إلى دعم المستثمر الزراعي السعودي الاستراتيجي ومشاركته معلوماته ومهاراته وخبراته, بل إنجازاته، ومن ثم التوجه إلى المستثمر الواعد بالتوعية والتوجيه والدعم لكيلا يقع في المطبات والثقوب الإدارية والاجتماعية والسياسية خارج البلاد، وسد الأبواب أمام كل دخيل ومتلاعب ومحتال، فالاستثمار الزراعي الخارجي تجربة يجب أن تنجح ولا نريد أن نسمع عن شركة زراعية تستثمر في الخارج تحولت إلى شركة تنمية كما هو حال كثير من شركاتنا التي أصبحت أسهمها أوراق قمار أكثر من كونها أوراقا مالية استثمارية.