كاظم، محمد عبده.. والقصائد
قصائد نزار قباني إذا مست حجرا اخضوضر ربيعا وإن نفحت روائحها شيخا عاد شابا. لكني وجدت نفورا بينها وبين الفنان كاظم الساهر، فرغم (تسلطه) لحنا وغناء على عديد منها إلا أن ثمة طلاقا ذوقيا بين شفافية ورقة حروف نزار وغشامة مخاصرة كاظم لها، فهو بدلا من أن يجد طريقه إلى رقصة أنيقة تليق بها يدعس ذيل فستانها ويطأ قدميها ويخمش بأظافره اللحم الحي فلا نسمع إلا زعيقا.
لا أقول ذلك تحاملا على كاظم، لكني أحسبه ورط نفسه فيما لا قبل له به، ومهما كان طموحا يريد أن يظل فرس الرهان في الساحات فقد كان عليه أن يعرف حدود قدراته اللحنية وحجم ونوع ثقافته الموسيقية، فهو رغم كونه آتياً من قاع تراث الطرب العراقي الثري بمواويله، وبتوجعاته، الزاخر بحناجر شجية: من ناظم الغزالي إلى عفيفة إسكندر, ومن مائدة نزهت إلى فاضل عواد وكثيرين ممن طرزوا ذائقة العرب بجواهر الأغنيات الخوالد وإن كان كذلك ابن ألحانه التي وضعها لنفسه أو لغيره ووفق في بعضها باللهجات المحكية, فالذي لا شك فيه أن قواه اللحنية خارت أمام غامر فتنة شعر نزار, حيث لم ير كاظم فيها (مع الأسف) إلا ذلك الغشاء الغرائزي فاستغله مصيدة للتصفيق ليس غير.
عكسه تماماً، ما فعله عفريت من الإنس هرول إليه لقب (موسيقار الأجيال) دخل سجل الخالدين باسم محمد عبد الوهاب فحين لحن (أيظن)، (ماذا أقول له)، (ارجع إلي)، (لا تسألوني) لنزار، طار بالسامعين إلى أجواز النشوة، والشيء نفسه فعله مع قصائد كامل الشناوي، علي محمود طه، شوقي، محمود حسن إسماعيل, صفي الدين الحلي, الأخطل الصغير، عبد المنعم الرفاعي، الهادي آدم، جورج جرداق، جبران، وغيرهم.
كما جعل المبدع العملاق محمد الموجي من (قارئة الفنجان) لنزار سيمفونية غنائية ونشيد إنشاد, أما بليغ حمدي فقد أحال (رسالة من تحت الماء) إلى أراجيح نغم, فيما قدم عظيم اللحن الشرقي رياض السنباطي قصائد: أبو فراس الحمداني، شوقي، رابعة العدوية, إقبال , عمر الخيام, أحمد رامي، إبراهيم ناجي، أحمد فتحي.. كؤوسا دهاقا تترك الخلق طواويس دهشة تميد في الأرض مرحا، فيما أطار الأخوان رحباني في كرنفالهما الموسيقي الخارق صواب السامعين بتلحين الموشحات الأندلسية وقصائد تراثية إلى جانب أشعار نزار، سعيد عقل، جبران، الأخطل، وسواهم غردت بها فيروز كساحرات الأساطير.
وإذا كان كاظم قد أساء لقصائد نزار، فإن فناننا الجميل محمد عبده، رغم هذا النجاح المدوي، وتتويجه بـ (فنان العرب) قد ورط هو الآخر نفسه في مجازفة تلحين قصائد من عيون الشعر العربي الحديث هي: (الطين) لإيليا أبو ماضي، (عذبة أنت) لأبي القاسم الشابي، (أنشودة المطر) لبدر شاكر السياب. وحين أفرج عن الأخيرتين لم يجد فيهما عشاق فنان العرب من الطرب شيئا، بل كانت النتيجة إخفاقا ذريعا في اللحن وفشلاً في الأداء، ولم تسعفه الشهرة ولا روائع أغنياته ولا التتويج على الصعود إلى عوالم تلك القصائد، وكان بإمكان محمد عبده التكهن بذلك مسبقا فقد كانت بادية في أغنية (لورا) التي لم يفلح تكرارها، حين صدورها، في ترسيخها، مع أن عكس ذلك حدث للراحل الكبير طلال مداح فقصائد (ماذا أقول)، (سويعات الأصيل)، (أفديك يا وطني)، (وطني الحبيب)، (تعلق قلبي)، وغيرها ما زالت متعتها تخض دم السامع وتنثر فيه أريجها.
عبد الوهاب، الموجي، السنباطي، بليغ، الأخوان رحباني وأمثالهم دهاقنة لحن وثقافة موسيقية لذلك صعدوا إلى ملكوت الفن حين عاقروا قصائد أولئك الشعراء الأفذاذ، فتأججت فتنة القصيدة في اللحن أو تأججت فتنة اللحن في القصيدة فلا تعرف من قاد الآخر إلى مخدع اللذة وأنجب أغنيات تشربتها الحواس من المسام، لا تستثني بإغوائها أحدا، فقد ترنمت بها فلاحة في الريف المصري تعلك عود اللفت وتخوض قدماها في الترعة كما ترنم بها راعي أغنام تدمِى قدماه من الصخور على سفوح جبال الأوراس في الجزائر أو بدوي يحلب النوق في صحاري نجد!!
أليس ذلكم هو الفارق الباذخ الفاره بين مَن يملكون خاصية الحاوي الذي يخرج من قبعته الحمام الأبيض الأنيق وبين من يأخذون القصائد إلى أقسام الطوارئ ليجروا لها عمليات قيصرية على درج المدخل؟!