بقوة العلم
عندما يتأمل المرء في واقع الأمم الأخرى المعاصرة, خاصة تلك المتقدم منها التي امتلكت ناصية القوة المادية والاقتصادية والعسكرية, يجد أن هذا الواقع لم يأت مصادفة أو بالأماني, بل هو ثمرة جهود علمية استمرت سنين, وصرف عليها كثير من الأموال, وبذل كثير من الجهود, كل هذا تم ويتم وفق أسس علمية وممارسات مهنية تقوم بها المؤسسات العلمية ممثلة في جامعات ومعاهد تلك الدول وعلماء مخلصين متمكنين في مجالاتهم مع إرادة سياسية تحثهم وتشجعهم على مزيد من العطاء والبحث والإنتاج العلمي البعيد عن الشعارات و"المنشتات" الصحافية. بعد ما يزيد على 50 سنة من الحادثة ذكرت صحيفة "هآرتس" العبرية أن أوريئيل بخراخ العالم النووي الإسرائيلي سجل في كتابه المعنون "بقوة العلم" شيئاً من الجهود التي بذلتها المؤسسات العلمية في دولة الكيان الصهيوني, حيث أشار في الكتاب إلى أنه مع مجموعة من العلماء العاملين في سلاح العلوم التابع لجيش العدو الصهيوني قضوا وقتاً في صحراء سيناء المصرية يدرسون طبيعة مكونات التربة, إذ إن صحراء سيناء تحتوي على كميات كبيرة من الفوسفات, الذي بدوره يحتوي على كميات جيدة من اليورانيوم, وذكر بخراخ أنه مع زملائه تمكنوا من نقل كميات من اليورانيوم واستخدامه في إنتاج السلاح الذري الإسرائيلي في مفاعل ديمونة النووي الكائن في صحراء النقب, ويمضي بخراخ في القول إنه مع زملائه انتحلوا شخصيات علماء ألمان يجرون أبحاثاً جيولوجية بهدف التمويه على الجهات الرسمية والشعبية. التأمل فيما ورد في الكتاب يكشف واقعين مختلفين, الواقع الأول يخص العرب, وما يمكن أن يوصف بأنه واقع مأساوي, حيث إن اليورانيوم يؤخذ من الأرض العربية ليحارب به العرب, والغريب في الأمر أن العلماء الصهاينة يدخلون ويخرجون من سيناء في وقت مبكر من قيام الكيان الصهيوني, وفي وقت كانت طبول الحرب تضرب من قبل العرب, فأين حماية الحدود؟ وأين حماية الوطن؟ وكيف يتم ترحيل الفوسفات من الأرض المصرية إلى الأراضي المحتلة دونما اكتشاف لعملية الترحيل هذه؟! ومع الاستمرار في تأمل الواقع العربي نجد أن الدول العربية تخلت عن برامجها النووية حتى إن ليبيا فككت الأجهزة الخاصة بمشروعها النووي وسلمتها للولايات المتحدة, ومثلها مصر التي جمدت برنامجها النووي ولم يعد البحث في هذا المجال هدفاً من الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها, ومع التوسع في النظرة بشأن العالم العربي نجد أن دولاً أخرى أغلقت البرامج الأكاديمية والأقسام الخاصة بالدراسات النووية حتى إن كانت ذات طابع مدني بحت, وإزاء هذا الوضع يتساءل المرء في هذه الظروف عن الأسباب الحقيقية وراء الإخفاق العربي بشأن السعي الجاد للاستفادة من هذا المجال, سواء في شقه المدني أو في شقه العسكري, خاصة أن العالم العربي في حالة حرب ناتجة من احتلال أراضيه وطرد شعب خارج بلادهم.
أما الواقع الآخر فهو يخص العدو الصهيوني الذي جعل من العلم والبحوث والدراسات أساساً له يبني عليه دولته في جميع المجالات المدنية, والعسكرية، ولذا لا غرابة أن نجد تفوق العدو عسكريا، ومتانة اقتصاده، وكثرة صادراته حتى في مجالات عسكرية دقيقة كالطائرات والصورايخ والدبابات, وهذا الوضع لم يأت من فراغ, بل هو نتاج فلسفة نظام يؤمن بالعلم, وينفق على العلم ومؤسساته, بما يتناسب مع أهمية العلم في تطوير المجتمع, وتقويته من الجوانب كافة. الجامعات في الكيان الصهيوني تحرص على اقتناص العلماء والباحثين من أي مكان كما أنها تحرص على الحصول على أي بحث متميز خلال نشره أو الانتهاء منه. أتذكر حين كنت في سنوات البعثة في الولايات المتحدة أن أحد طلاب الدكتوراة في الجامعة التي أدرس فيها أجرى بحثاً توصل من خلاله إلى طريقة تسهم في تحسين إنتاج البطاطس وحمايتها من بعض الأمراض, وبعد أيام قلائل من مناقشة الأطروحة تم الاتصال به من شركات ومراكز أبحاث إسرائيلية تعرض عليه العمل معها. إن توظيف العلم هو الأساس الذي بنى عليه الكيان الصهيوني حياته في جميع المجالات المدنية, والعسكرية ما مكنه من الاستمرار حتى الآن في احتلال فلسطين والتأثير في كثير من شعوب وحكومات العالم. ما كتبه بخراخ في كتابه اعتراف صريح بالسرقة، واعتراف باختراق السيادة المصرية، وتهديد الأمن القومي المصري، ومخالف للقانون الدولي، ولا أعلم إن كانت الحكومة المصرية الحالية, أو التي سبقتها تعلم عن هذا الحدث أم لا، وماذا فعلت، أو ماذا ستفعل مستقبلاً إزاء دولة العدو التي أرسلت الفريق العلمي العسكري خاصة أن الحكومة المصرية هذه الأيام تشن حملة شعواء إعلامية، وسياسية، وعسكرية ضد المجموعة التي تتهمها بتهريب السلاح إلى غزة.
إن ظهور هذا الاعتراف من قبل من دخل مصر دون تصريح رسمي, وسرق اليورانيوم من الأرض المصرية، وأقام في سيناء فترة طويلة يحرج الحكومة المصرية في هذا الوقت الحرج الذي تدافع فيه عن سيادتها وأمنها والذي ترى تضرره بفعل مجموعة من اللبنانيين والمصريين المتعاطفين مع سكان غزة. الأمر المحرج والمزعج أن ثروات العرب تستخدم ضد العرب, فالمفاعل النووي الصهيوني أنتج ما يقارب 200 رأس نووي تهدد الدول العربية وشعوبها وثرواتها وهذا لم يكن ليتحقق لولا العلم وحسن استثماره. لقد صدق شاعرنا العربي حين قال:
العلم يبني بيوتاً لا عماد لها
والجهل يخفض بيت العز والشرف
لو طبقنا هذا البيت لوجدنا عصابات الصهاينة جاءوا من كل حدب وصوب، وبالعلم بنوا كياناً قويا في بنيته الإدارية والسياسة, والاقتصادية والعسكرية, ولذا انتصروا علينا, أما نحن فقد اعتمدنا على نظرية لا أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد, ولذا لا غرابة أن ننهزم ونكون ضعفاء رغم الإمكانات الهائلة التي تتوافر لدينا.