رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


برنامج التخصيص في المملكة مريض غير ملتزم ببرنامج العلاج

لو أن مريضاً راجع طبيباً يشتكي من عارض صحي مزمن فوصف له الطبيب دواء مر المذاق بآثار جانية مزعجة، وأخضعه لحمية قاسية، وألزمه ببرنامج رياضي مكثف، ومنحه إجازة مرضية، ولم يلتزم هذا المريض إلا بأخذ الإجازة المرضية، أما بقية عناصر العلاج فلم يعرها أي اعتبار ولم يلتزم بها، فإن من نافلة القول أن هذا المريض سيكون بحال أسوأ بنهاية فترة العلاج مقارنة بحاله قبلها. ومما يؤسف له أن هذا هو بالضبط هو حال الأجهزة الحكومية المرشحة للتخصيص في المملكة، فبرنامج التخصيص عبارة عن حزمة متكاملة من العلاج القاسي غير المريح للقائمين على الجهاز والعاملين فيه، إلا أن تلك الأجهزة لم تلتزم بأي من متطلباته غير المريحة واكتفت بتمتعها بالمرونة المالية والإدارية التي أعتقتها من الأنظمة الحكومية المقيدة نسبيا وتجاهلت كل ما عدا ذلك، بالتالي فحالتها المرضية، إن جاز التعبير، ستكون أسوأ كثيراً بنهاية فترة العلاج منها قبلها، أي أن إمكانية نجاح تخصيصها ستكون أقل مما كانت عليه قبل شروعها في هذا البرنامج الذي يسمى زوراً برنامج تخصيص.
أحد أهم متطلبات نجاح برنامج التخصيص هو أن تأتي مرحلة التخصيص الفعلي كمرحلة لاحقة لمرحلة يبذل خلالها جهود حثيثة لرفع كفاءة القطاع الحكومي بشكل عام، وبعد تحقيق نجاح كبير في هذا السبيل يلجأ إلى التخصيص كمرحلة أخيرة في جهود تحسين الأداء بالنسبة للأجهزة الحكومية التي يمكن أن تدار وفق أسس تجارية معتمدة على مواردها الذاتية التي تحققها من تقديم خدماتها للجمهور، باعتبار أن أسلوب التشغيل التجاري يفرض عليها تحقيق خفض إضافي في تكاليفها التشغيلية وزيادة في قدرتها على تغطية مصروفاتها وتقديم خدماتها بأسعار تنافسية، ما يقلل من متطلبات التمويل الحكومي لتلك الأجهزة، كما يوفر موارد إضافية للدولة من عوائد بيعها يمكن استخدامها في تمويل خدمات حكومية أخرى لا بد أن تقوم بها الدولة، كما ينتج عن عملية التخصيص إيجاد فرص استثمارية جديدة في الاقتصاد الوطني تساعد على بقاء المدخرات المحلية واجتذاب الاستثمارات الأجنبية.
أي أن أي جهاز يخضع لبرنامج تخصيص حقيقي يمر خلال المرحلة التي تسبق تخصيصه الفعلي بمخاض صعب غير شعبي يواجه بمقاومة شرسة من العاملين وغيرهم من ذوي العلاقة، فلكي يكون الجهاز قادرا على تغطية تكاليفه أو على الأقل الحد من عجز إيراداته في مرحلة ما قبل التخصيص فإنه سيكون مضطرا إلى اتخاذ إجراءات تقشفية قاسية بما في ذلك الاستغناء عن العاملين الذين لا حاجة حقيقية إلى خدماتهم، وقد يضطر أيضا حتى إلى تخفيض رواتب بقية العاملين وأن يقلل قدر الإمكان المصروفات التشغيلية الأخرى، في الوقت نفسه الذي يكون مطالباً فيه ببذل جهود مضنية لتحسين إيراداته الذاتية بصورة تسمح بتحقيقه قدراً مقبولاً من التوازن المالي في فترة ما قبل التخصيص الفعلي ما يقنع المستثمرين بإمكانية تحقيقهم عوائد مجزية من خلال استثمارهم فيه.
من ثم فإن المرونة المالية والإدارية التي تمنح للجهاز المرشح للتخصيص تهدف إلى إعطائه قدرة أكبر على التعامل بحزم مع مشكلاته القائمة ومعالجة ما يعانيه من تدن في كفاءة الأداء، إلا أننا نجد أن الأجهزة المرشحة للتخصيص في المملكة لا تقوم بأي من ذلك, بل تفعل العكس تماما، فنجد هذه الأجهزة تستغل ما يمنح لها من مرونة مالية وإدارية في فترة ما قبل التخصيص للقيام برفع المرتبات وزيادة مختلف المصروفات التشغيلية، بالتالي تتضاعف تكلفة الجهاز المرشح للتخصيص على ميزانية الدولة مرات عديدة، ويصبح الوضع المالي للجهاز في حال أسوأ مما كان عليه قبل ذلك، أي أن تصبح أهلية هذا الجهاز للتخصيص في الواقع أقل مما كانت عليه قبل بدء هذا البرنامج العلاجي المبتور، فيصبح حاله مثل حال المريض الذي يستمتع بالإجازة المرضية لكن لا يلتزم ببقية عناصر البرنامج العلاجي فيزاد وضعه الصحي تدهورا.
إن هناك حاجة ماسة إلى أن تكون هناك جهة عليا في الدولة تعنى بشكل مباشر ببرنامج التخصيص تعهد إليها مهمة تدقيق وتمحيص برامج التخصيص المقترحة من الأجهزة الحكومية للتأكد من أنها حزمة متكاملة تؤهل الجهاز لعملية تخصيص حقيقية، وأن تتولى هذه الجهة مراقبة ومتابعة أداء الأجهزة الحكومية التي يفترض أنها بدأت برنامج تخصيص، بحيث يتم التأكد من عدم استغلال المرونة المالية والإدارية لتفادي اتخاذ القرارات الصعبة القاسية التي يفرضها برنامج التخصيص عادة. فبرامج التخصيص الحالية وأساليب تطبيقها تظهر بما لا يدع مجالا للشك أن مشاريع التخصيص المقدمة من الجهات الحكومية تقر بحد أدنى من التمحيص والتدقيق، وفوق ذلك يترك للجهة الحكومية نفسها مسؤولية الرقابة على برنامج التخصيص الذي تقترحه، وهذا غير واقعي ويترك المجال واسعاً للتجاوزات والمبالغات التي تغري حتى العاملين في مستويات عليا في تلك الجهة بترك موقع المراقب والمشرف والانتقال إلى برنامج التخصيص، ما يؤكد الحاجة الماسة إلى وجود جهة عليا في الدولة منوط بها هذه المسؤولية، فهذا النوع من التخصيص خطر على اقتصادنا الوطني وليس وسيلة لرفع مستوى أدائه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي