أنتم أعلم بأمور دنياكم: فهمان متطرفان
أخرج الإمام مسلم عن طلحة بن عبيد الله يحدث عن أبيه قال: مررت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوم على رؤوس النخل، فقال "ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، قال: ما أظن يغني ذلك شيئاً" فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، فقال: "إن كان ينفعهم؛ فليصنعوه؛ فإني إنما ظننتُ ظناً؛ فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً؛ فخذوه؛ فإني لن أكذب على الله - عز وجل".
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: "قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً؛ كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك...". ورسول الله لم ينههم عما كانوا يصنعون، لكنهم توهموا ذلك.
لدينا فهمان متطرفان للحديث. أصحاب الفهم الأول حاولوا حصر الدين في العبادات، ولكنا نعرف أن الشريعة تناولت حياة الناس من عبادات ومعاملات وغيرها، قال الله – تعالى -: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً"، وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ" الآية.
مقابل الفريق الأول نسمع ونقرأ لبعض الناس عبارات من قبيل في شريعتنا الإسلامية حل كل مشاكلنا الاقتصادية، وإلا لما كان دينا كاملا، صالحا لكل زمان ومكان.
ما قاله الفريق الثاني من المجمل الذي يحتاج إلى توضيح وبيان بالمقصود، ومن يقولها بإطلاق يسيء فهم طبيعة تلك المشكلات وتعقيداتها، ويقحم الشريعة في تفاصيل من أمور الدنيا ترك الخالق بحثها للبشر.
نحن نعرف أن الدين كامل، ولكننا في الوقت نفسه نعرف معرفة قطعية أن الشريعة لم تأت لتعلمنا كيف يعمل السوق وكيف ترتفع الأسعار وكيف نقيس هذا الارتفاع؟ وكيف نفهم العلاقة بين كمية النقود ومستوى الأسعار؟ وكيف يؤثر ارتفاع الدخل في الأسعار؟ وكيف نقيس هذا التأثير؟ كيف يتغير الاستهلاك جراء ارتفاع سعر سلعة ما؟ لم تأت لتعلمنا أنواع أسعار الصرف، وكيف تقاس، وما الذي يؤثر فيها، وكيف يؤثر؟ وأيها أصلح وأنفع للبلاد: اتباع نظام سعر صرف ثابت إزاء عملة واحدة أو مجموعة عملات أو ترك العملة حرة؟ لم تأت الشريعة لتعلمنا كيف ينمو الاقتصاد، وكيف نوزع/ نخصص allocate الموارد بين بدائل استخدام كثيرة، مثلا، كيف توزع/ تخصص الأموال (سواء للحكومة أو للشركات) على أوجه الإنفاق كالرواتب والصيانة والبنية التحتية وغيرها؟ ما أنسب المعايير التي تحكم التوزيع، وما ماهية هذه المعايير، وعلام اختيرت؟ ما تأثير طريقة التوزيع في النمو الاقتصادي؟
لم تأت الشريعة لتعلمنا طبيعة العلاقة بين مستوى الأجور والتضخم والبطالة، أو بين قيمة الأسهم وأوضاع الاقتصاد أو تأثير السياسات الحكومية في عمل السوق. لم تعلمنا كيف نتعرف على هذه العلاقة وندرسها سببا وباستخدام الأدوات الكمية. لم تأت لتعلمنا أيهما أنسب للمجتمع وكيف: أن تقوم الحكومة مباشرة بتوفير الخدمة الصحية، أم تتركها للناس (القطاع الخاص)، ومقابل ذلك توزع عليهم ما كانت تنوي إنفاقه على الرعاية الصحية، وما تأثير كل اختيار في الناس على المدى القصير وعلى المدى البعيد ووفقا لاعتبارات كثيرة كدخول الناس وأماكنهم وأعمالهم... إلخ؟ هذه أمثلة من المشكلات والقضايا الاقتصادية التي ترك المولى سبحانه أمر بحثها للعباد، وهي أكثر من أن تحصى.
وما قلته لا يتنافى مع إيماننا أن المصائب ومنها المشكلات الاقتصادية إنما هي من الناس، يقول المولى سبحانه: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" الآية 30 من سورة الشورى. ورغم الإيمان بما سبق، إلا أنه لا يمنع من البحث في الأسباب المادية، مثلما أننا نؤمن بأن المرض والشفاء من الله، وأن المرض مصيبة من المصائب المشمولة بالآية، وما كان ذلك مانعا من البحث في أسباب المرض وطلب العلاج.
وأختم بنقل قول نفيس للعلامة ابن باز ـ رحمه الله ـ: ".. فقد أجمع المسلمون قاطبة على أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام – ولا سيما خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - معصومون من الخطأ لما يبلغونه عن الله - عز وجل -من الأحكام, أما في أمور الدنيا فقد يقع الخطأ ثم ينبه على ذلك, كما وقع له - صلى الله عليه وسلم - لما مر على جماعة يلقحون قال: (ما أظنه يضره لو تركتموه) فلما تركوه صار شيصاً فأخبروه فقال - عليه الصلاة والسلام-:( إنما قلت ظناً وأنتم أعلم بأمر دنياكم أما ما أخبركم به عن الله فإني لن أكذب على الله), فبين - عليه الصلاة والسلام - أن الناس أعلم بأمور دنياهم كيف يلقحون, كيف يغرسون, كيف يبذرون, كيف يحصدون إلى غير ذلك من أمور دنياهم, كيف يعمرون مساكنهم إلى غير ذلك, وهذا الحديث رواه مسلم في الصحيح، أما ما يبلغه عن الله من أمور الدين من العبادات والأحكام هذا حلال وهذا حرام، إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا, أو أن هذا فيه كذا من النفع وهذا من فيه الضرر كذا هذا كله حق, ولا ينطق عن الهوى - عليه الصلاة والسلام - بل هو معصوم في ذلك - عليه الصلاة والسلام".