النظام المصرفي العالمي الجديد.. أقل تعرضا للمخاطر لكنه أقل عوائد

النظام المصرفي العالمي الجديد.. أقل تعرضا للمخاطر لكنه أقل عوائد

أوضح تقرير أعدته شركة برايس ووتر هاوس كوبرز حول النظرة المستقبلية للاقتصاد العالمي بعد الأزمة المالية، أن عدداً من العوامل سيؤدي إلى إيجار عالم جديد من الناحية الاقتصادية. وفي هذا الخصوص أوضح وليد شكري، الشريك الرئيسي في شركة برايس ووتر هاوس كوبرز/ السعودية في هذا التقرير أن الأزمة المالية ستؤدي إلى صياغة أطر نظام اقتصادي عالمي جديد، كما ستؤدي أيضاً إلى التوجهات المستقبلية للاقتصاد العالمي.

الأول: نموذج جديد للخدمات المالية
بدأت الأزمة المالية في سوق الرهن العقاري في أمريكا، وسرعان ما انتقلت إلى الأسواق والمؤسسات المالية، ثم ما لبثت أن قوضت الأسس والقواعد التي يرتكز عليها النظام المالي العالمي بأكمله.
لقد كانت أسواق الائتمان هي أول ما بدأت به الأزمة، ولكن آثارها انتقلت بعد ذلك إلى جميع أنواع الموجودات التي كانت تعتمد على مزيج من المال ذي التكلفة المتدنية وحدود ائتمانية عالية، ما عجل بنهاية نموذج نشاط البنوك الاستثماري الأمريكي المستقل وحمل دول العالم ابتداءً من أيسلندا حتى إلى المجر على التوجه منصاعين إلى صندوق النقد الدولي.
وقد انضمت الحكومات الآن إلى صفوف البنوك، حيث قدمت السيولة اللازمة والضمانات المالية، وامتلكت حصصاً في ملكية المؤسسات المالية، بل في السيطرة عليها، وذلك بهدف ضمان عدم تكرار وقوع أزمات أخرى واسعة النطاق على هذه الشاكلة.
ستسعى الحكومات والجهات الرقابية إلى تحقيق تنظيم للبنوك يخفض المخاطر المحتملة إلى أقصى حد ممكن. وستكون محصلة ذلك هي نظام مصرفي يؤدي وظائفه تحت نموذج حوكمة أكثر صرامة وتشدداً وتكون فيها المخاطر والعوائد أقل بكثير ويعمل في اقتصاد عالمي يختلف جداً عما كان عليه الوضع العالمي قبل الأزمة.

الثاني: انتقال القوة العالمية إلى الشرق
أما فيما يتعلق بتأثير الأزمة على القوى الاقتصادية في العالم، فقد ذكر الأستاذ وليد شكري أن التقرير يرجح أن ينتقل ميزان القوة الاقتصادية إلى الشرق بسبب أن الثقة وقوة الاقتصاد الغربي قد تضرر جداً وذلك كجزء من التوجه نحو اقتصاد عالمي غير متمركز في الولايات المتحدة، وبالتالي ستؤثر دول الأسواق (الناشئة) في شرق العالم على نحو متزايد على أنماط التجارة والاستثمار لتعكس متطلباتهم من الموارد المالية والطبيعية، وسيقوم النظام المصرفي بالتركيز على هذه الموارد بدلاً من التركيز على كيفية إيجاد أفكار تمويلية جديدة.
وقد أدركت دول الأسواق الناشئة مركز القوة الذي وصلت إليه حديثاً وصارت تطالب بمقعد على الطاولة كمجموعة رئيسية إلى جانب مجموعة العشرين G20 وتحث بقوة على التغيير في أنظمة العالم المالية. وستظهر مؤسسات مالية جديدة من هذه الدول لتتحدى هيمنة البنوك الغربية التي أصابها الضعف. وستستمر أهمية شأن الصناديق السيادية، والبنوك الصينية، وكذا صناديق المستثمرين في مجلس التعاون الخليجي في حقوق الملكية الخاصة وقطاع العقارات ستستمر في النمو والأهمية.

الثالث:نهضة النشاط المصرفي التقليدي
في هذا الوضع العالمي الجديد سيكون النظام المصرفي أصغر حجماً وسيخضع لأنظمة أكثر إحكاماً. وسيتم تفكيك وإزالة أجزاء كبيرة من النظام المالي الشكلي الحالي وستكون هناك عودة إلى نظام البنوك الشامل.
إن معظم البنوك التي اعتمدت أساساً على أسواق رأس المال من أجل توفير السيولة والتي كانت نشاطاتها متخصصة أكثر منها شاملة، قد اختفت بل إن جولدمان ساكس ومورجان ستانلي أصبحا الآن من بنوك التجزئة التي تقبل الودائع الفردية الصغيرة.
لقد كان نمو الأدوات المالية المشتقة في سنوات الازدهار غير مرتبط بنمو الاقتصاد الحقيقي، بل سيزداد عدم الارتباط هذا علماً أن الأدوات المالية المشتقة لن تختفي، وإنما قد يتقلص حجم معاملاتها ويصبح أكثر تواؤماً مع حجم الاقتصادات الحقيقة.
ويستطرد الأستاذ وليد شكري قائلاً إنه يجب تركيز وتوظيف رأس المال في الخدمات الأساسية للمؤسسة المالية وفي سد الفجوات (توفير الخدمات غير المتوافرة) المتوقعة في السوق.
كما يرجح أن الأزمة المالية أبرزت أوجه قصور في تسعير ومراقبة وإدارة البنوك للمخاطر. وفي هذا الجانب، فإن الأزمة أكدت ضرورة تطوير نظام خدمات مالية تعمل على مستويين لأنه من الطبيعي أن تؤدي زيادة ضغوط أنظمة الحوكمة على تمخض نظام مالي متعدد الأقطاب. وستكون هناك بنوك استثمارية تعمل تحت نظام إشرافي محكم القبضة، كما سيكون هناك قطاع مالي آخر، خاضع لإشراف أقل ويشمل صناديق التحوط من الخاطر وقطاع الاستثمار في حقوق الملكية الخاصة (الأسهم الخاصة) وقطاع الاستثمار العقاري، وإن كانت منشآت تلك الشريحة الأخيرة ستظل تواجه أنظمة رقابية أكثر مما مضى.

الرابع: العمل على تنظيم المؤسسات المالية لتخفيض المخاطر
يعد التعويض من بين الأمور المهمة، حيث تتحمل الحكومات والمجتمعات تكلفة الأزمة المالية وعليه وضعت الحكومات هدفاً رئيسياً وهو "ألا يتكرر هذا الخطأ مرة أخرى". وبينما حُمّلت المؤسسات المالية الغربية جزء كبير من المسؤولية عن هذه الأزمة، فإنه لا بد أن تحمل الجهات الرقابية (التنظيمية) هي الأخرى مسؤولية عدم التصرف في وقت مبكر، فلقد انكشفت نقاط الضعف الجوهرية في النظام الرقابي. وسيكون هناك تغيير مادي وجوهري في البيئة الرقابية التي تعمل البنوك والمؤسسات المالية الأخرى في ظلها.وقد تبين أن هناك إجماعا على أن الإدراك العام للأنظمة المالية مع هذا القصور الرقابي لا يمكن التعامل معهما على مستوى الوطن الواحد. وتظل الرقابة على البنوك مسألة وطنية ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى اختلاف تقاليد ومراحل تطور الأسواق المحلية، ولكن وجود تنظيم عالمي (يتخطى حدود الوطن الواحد) تحت قيادة إحدى الجهات الرقابية القوية هو مطلب أساسي لنظام مالي أفضل.
وفي هذا الصدد يقول الأستاذ وليد إن التقرير يوضح أن دول العشرين بدأت في وضع تصور لخطة عمل للإصلاح الرقابي يعكس انتقال القوة الاقتصادية والسياسية إلى دول الأسواق الناشئة، وتبني مفهوم مجلس الجهات الرقابية. ومع ذلك فإنه قد يكون من الصعب إمكانية حدوث رقابة وإشراف أكثر مباشرةً لقطاع صناديق التغطية (صناديق التحوط من المخاطر) فهي أقل وضوحاً، حيث توجد دول ترغب دوماً في اجتذاب المنشآت التي تدير الاستثمارات. وخلاصة القول إنه سيكون من الصعب جداً على السلطات تنظيم هذا القطاع على نحو نشط وفاعل.
كما أكد التقرير، من جهة أخرى، أنه يجب أن تتم معالجة القصور في القواعد والتنظيمات ذات الصلة بكفاية رأس المال، حيث أظهرت الأزمة أن ضعف إطار لجنة Basel II بدون متطلبات قوية للسيولة، كما سيتم عكس التوجه - الواضح قبل الأزمة - نحو جعل تعريف رأس المال التنظيمي أقل صرامة.

الخامس: الحكومة جنباً إلى جنب مع المؤسسات المالية
يؤكد التقرير أن الحكومات يجب أن تجد حلاً لتضارب المصالح بين الحاجة لتأمين استمرار عمل النظام المالي وعودته إلى الربحية، والحاجة إلى التعامل مع ضغوط مالية غير مسبوقة على خزانة الدولة، وفي الوقت نفسه معالجة مشكلات اجتماعية وسياسية أكثر اتساعاً. فستظل الحكومات مشتركة في مجال الخدمات المالية لفترة قادمة. وقد ترغب الحكومات في خصخصة ممتلكاتها في المؤسسات المالية، إلا أنه في المستقبل القريب لن يكون هناك مستثمرون راغبون في الشراء لديهم رؤوس أموال كافية.
وستواجه البنوك غير المدعومة من الدولة - أي التي لا يوجد تأثير مهم للحكومة عليها - ضغوطاً لتغير سلوكها هي أيضاً، على الرغم من عدم تلقيها أموالاً من الحكومة.

السادس: الضغوط المالية غير المسبوقة على خزانة الدولة
يؤكد التقرير أن الحكومات، خصوصاً الغربية منها، تواجه حالياً ضغوطاً مالية حادة على خزانتها، حيث أدى الركود وهبوط أسعار الأصول إلى انخفاض إيرادات (عوائد) الدولة من الضرائب. وستطلب الحكومات من البنوك أن تتحمل نصيبها العادل منها مقابل إنقاذها من الأزمة.
إن الدول التي ستخضع لأكبر هذه الضغوط المالية على الإطلاق هي تلك الدول التي تلعب فيها المؤسسات المالية الدور الأكبر في اقتصادها، والتي حقق فيها المستهلكون أعلى مديونية وانخفضت فيها أسعار العقارات بشكل أكبر - وهي الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وإسبانيا وأيرلندا. وستواجه المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية ضغوطاً أكبر لأنهما تدخلان مرحلة الركود ولديهما عجز في الميزانيات، وقد تنخفض الأسعار (المعدلات) الضريبية ويزيد الإنفاق في المدى القصير لتخفيف آثار الركود، ولكن على المدى البعيد سيكون هناك اضطرار لارتفاع الضرائب في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة ودول أخرى. ونظراً لأهمية الخدمات المالية لاقتصاديات دول العالم المتقدمة، فمن الطبيعي أن تسعى الحكومات إلى أن تثقل قطاع الخدمات المالية بالضرائب. كما أن الحكومات ستطلب وعلى نحو متزايد من المؤسسات المالية ألا تنخرط في تخطيط ضريبي "غير مقبول" وستعتمد على هذه المؤسسات للحفاظ على الالتزام من جانب عملائها.

السابع: التحول من وضع الدفاع عن البقاء إلى استراتيجية النمو المستدام
يقول الرئيس الأمريكي جون كينيدي: يكتب الصينيون كلمة أزمة بجرتي قلم. تعني الأولى "خطرا" وتعني الثانية "فرصة". وفي حالة الأزمات يجب أن نكون حذرين لنمط الأزمة وأن يكون هناك عيون لدرء الخطر ولكن يبقى الوقت ويجب انتهاز الفرص. فالرابحون في هذه الأزمة هم من سيفعلون ما يتطلبه البقاء والاستمرار، ويتكيفون في الوقت ذاته مع واقع عالم جديد بعد الأزمة.
ولجعل المؤسسات المالية تعمل، هناك حاجة إلى إطار أساسي لنشاطها قابل للدوام فمعظم المؤسسات المالية عالقة الآن في وضعية الدفاع عن بقائها واستمرارها، على حين يحتاج مديروها التنفيذيون الآن إلى اتخاذ قرارات بشأن وضعها بعد سنتين أو ثلاث سنوات.
ويؤكد الأستاذ وليد شكري أن "على المؤسسات المالية أن تدرك أن المستقبل لن تكون، كما في الماضي. فانتقال ميزان القوة الاقتصادية والسياسية من الغرب إلى الشرق هو انتقال طويل الأجل وسيجلب معه نمطاً مختلفاً تماماً من الاستثمارات والتجارة الدولية"وبالإضافة إلى تغير أنماط التجارة والعولمة، توجد ثلاثة عوامل أخرى تؤثر في قطاع الخدمات المالية هي: ارتفاع نسبة الشيخوخة والمسنين بين سكان الدول المتقدمة، والنمو الأكثر سرعة في دول الـ E7 منهم في دول الـG7، والتأثير المتواصل للتقدم التقني (التكنولوجي) في الخدمات المالية. ولتحافظ المؤسسات المالية على قدراتها التنافسية، يتعين عليها إدخال هذه التوجهات القوية طويلة الأجل في استراتيجيات أنشطتها، على نحو عاجل وليس آجل.

الأكثر قراءة