مرض عدواني يشبه الوباء..!

قبل أيام نقلت صحيفة "الرياض" خبر حادثة, وقعت في العاصمة الرياض, والقصة بتفاصيلها موجودة في الصحيفة (عدد يوم الجمعة 7/4/1430هـ, رقم 14893), إنها قصة غمست حروفها في بحر من دم, كلا, بل هي قصة نُسِجَت فصولها بدماء زكية, ورسمت معالمها باللون الأحمر القاني, وسطر بطلها المخمور أبشع صورة آدمية, يمكن أن يستحضرها بشر, لأنها في الواقع قصة شيطان في صورة إنسان..! والمؤسف أنها وقعت هنا في الرياض على ذمة الجريدة الرسمية التي حكت تفاصيل المأساة, وكم هو مبكٍ حين تفجع الأسرة على يد عزيز عليها, ممن تنتظر منه الحنان, والابتسامة الحلوة, فيبادلها بأقصى درجات الوحشية والانتقام..!
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة...على المرء من وقع الحسام المهند
وخلاصة المأساة أن أباً لأبناء أربعة وابنتين, كان متورطاً في تعاطي المخدرات, وكان سبباً في إيقاع أبنائه الثلاثة في تعاطي المخدرات, ثم جاء دور ابنته الكبرى, حيث كانت تنتظره داخل البيت لتسلم عليه بعد غياب طويل, فنعست وابنتها في حجرها, فجاء أبوها ليرد السلام عليها, ويكافئها على انتظارها بنحرها بسكين, وربما كانت لحظتها تحلم بعودة أبيها لتقبله على رأسه, فصحت زوجته (أمها) على صراخ ابنتها قبل أن تلفظ أنفاسها..! رحمها الله, وأسكنها في عليين, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقا...آمين, آمين, آمين.
لقد أضحت صحفنا المحلية تطل علينا بين الفينة والأخرى بمثل هذه المآسي التي تقشعر لها الأبدان, هذا مع الأحكام الصارمة التي يصدرها القضاء في محاكمنا الشرعية, التي تصل إلى حد القتل للمهرب, والمروج للمرة الثانية, هذا إن لم يأخذ القاضي بالحكم الأخف, وهو السجن لمدة 15 سنة, والغرامة 100 ألف ريال كحد أدنى, وأتمنى من قضاة المحاكم ألا يأخذوا بالحكم الأخف في ظل هذا الاستهداف الخطير لشبابنا ورجالنا, وفي ظل هذه الموجة العاتية من حبوب المخدرات, والتي تتسلل إلى داخل بلادنا, مع أخذ الجهات المسئولة بالاحتياطات اللازمة لرصد هؤلاء المجرمين...
والسؤال الذي يطرح نفسه: لو كانت الأحكام القضائية أقل صرامة ماذا سيحدث..؟ إذن لكثرت جرائم المخدرات, وتسارعت, لعن الله من ابتكرها, وكف الله شر من أنتجها, وهربها, وروجها...
وكم تتداعى الدول الواعية على محاربتها بشتى السبل, ولكن تجار المخدرات أبوا إلا أن ينشروا هذا الوباء الخطير, الذي يبيد خضراء الأسر, ويقضي على كيانها, ويهدد حاضرها ومستقبلها...
إنها جريمة تقضي على الضرورات الخمس التي جاء الإسلام بالمحافظة عليها وتقريرها, وهي ضرورة المحافظة على الدين والنفس والعقل والنسل والمال, واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى:" قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده...) فقوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أمر بالمحافظة على الدين والأخلاق وصلة الأرحام. وقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أمر بالمحافظة على النسل. وقوله (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) أمر بالمحافظة على العرض. وقوله (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) أمر بالمحافظة على النفس البشرية. وقوله (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) إشارة ربانية إلى المحافظة على العقل. وقوله (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) أمر بالمحافظة على المال.., وهكذا نجد الشارع الحكيم قد جمع المحافظة على هذه الضرورات الخمس في آيتين كريمتين؛ لعظم شأن هذه الضرورات...
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتشريع العديد من الأحكام للمحافظة على هذه الضرورات الخمس:
فشرع الله أركان الإسلام الخمسة, وفرائض الدين, وسننه؛ محافظة على ضرورة الدين...
وأباح الله تناول الطيبات من الطعام والشراب, وتأمين ضرورات الحياة وحاجياتها من الملبس والمسكن والمركب؛ وشرع القصاص على القتلة والمجرمين؛ محافظة على ضرورة النفس...
وأمر بالتفكر في مخلوقاته, وبتحصيل العلم النافع, وحرم تناول المسكرات والمخدرات؛ محافظة على ضرورة العقل...
وحض على النكاح, والتزوج بالمرأة الولود, وتأمين الحياة الكريمة للأسرة والأولاد؛ محافظة على ضرورة النسل...
وحث على تحريك المال واستثماره, وحفظه من التبذير والإسراف وإنفاقه فيما لا ينفع أو فيما لا يجوز؛ محافظة على ضرورة المال...
فما حظ المخدرات ومهربيها ومروجيها ومتعاطيها من هذه الضرورات الخمس؟
لقد ذبحوا هذه الضرورات الخمس بسكين, ونحروها لغير القبلة, فوجبت الضرورات الخمس على جنوبها في باحة هذه الجريمة النكراء..!
وبالنظر إلى واقع هذه الجريمة, نجد أن متعاطيها ـ مثلا ـ يقع في منكرات عدة, فمن ذلك:
أنه يتناول المخدرات, ويهيم في المسكرات, فيضيع عقله, وبهذا تضيع ضرورة المحافظة على العقل, وبفقدان العقل ينفرط عقد الضرورات الباقية, فيهجر الصلاة ـ وهي عمود الإسلام ـ ويضيع الصيام, وغيرهما من تعاليم الدين, وبهذا تضيع ضرورة المحافظة على الدين, وبفقدان العقل وضياع الدين يتجرأ على النفوس المحترمة, فيزهق الأرواح, وغالبا ما يكونون من أقرب الناس إليه, كأم أولاده, وأطفاله, وبهذا تفوت ضرورة النفس والنسل, ولا يقف الأمر عند هذا الحد, بل يشتري فقدان العقل, وقتل النفس, وإزهاق النسل, بحر ماله..., وذلك حين يدفع المال الكثير في سبيل تحصيل أكبر عدد ممكن من الحبوب المخدرة, أو من قوارير الخمر, وبهذا تنهار الضرورات الخمس من خلال جريمة تعاطي المخدرات..!
إن القضاء على مثل هذه الجرائم أو الحد منها يستدعي الآتي:
ـ أسلوب تثقيف ووقاية تنهض بعبئه الأسرة, ومنابر المساجد, والوزارات ذات الاختصاص, وعلى رأسها وزارة التربية والتعليم, ووزارة الإعلام, وذلك بتوظيف التقنية الحديثة بما يكشف عن أضرار هذه الجريمة, مع الأخذ في الاعتبار أهمية التنسيق مع أهل العلم والدعاة الذين يملكون زمام الكلمة, ويحسنون اختيار أطايب الكلام.
ـ أسلوب حفظ ومتابعة تنهض بعبئه الشرط والهيئات وإدارة المخدرات؛ لتقصي المتورطين في هذه الجريمة, وتسليمهم للعدالة, دون تساهل أو مواربة, ودون تدخل بالشفاعات السيئة" أو ما يسمى بالواسطات" (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها).
ـ أسلوب علاج وتأهيل تنهض بعبئه وزارة الصحة, فقد أضحت بلادنا بأمس الحاجة إلى الإسراع بزيادة عدد المستشفيات المتخصصة في هذا المجال, لتغطي العجز الموجود الآن, بحيث تنوء بمسؤولية معالجة هؤلاء المدمنين للمخدرات, ومرض الإدمان هو أكثر أهمية في الواقع من سائر الأمراض المستعصية؛ لأنه مرض عدواني "فيشبه الأمراض الوبائية" وكم من حالات قتل كان وراءها رجل مدمن, انتقل وباء مرضه إلى أفراد أسرته بإزهاق أرواحهم بجرائم بشعة, وربما كان ذلك المدمن في يوم من الأيام قد حيل بينه وبين دخول المستشفى بحجة نقص الأسرة...!
ـ أسلوب ردع تنهض به المحاكم الشرعية, وذلك بإيقاع أقصى العقوبات على المهربين والمروجين, وإعادة النظر في العقوبات الرادعة للمتعاطين, بالتنسيق مع الجهات المعنية.
ـ أسلوب حماية يسهم فيه أرباب الأسر وأصحاب الأموال من أهل الخير, وذلك لتأمين بيوت مناسبة لأولئك الزوجات الضعيفات والأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة, وكان قدرهم أن يعيشوا في بيت ينتظرون فيه الموت كل ساعة بسبب عامل الفقر والحاجة, والأسرة التي أشرت إلى حالها هي من ضمن الأسر التي تعرضت لهذه المأساة؛ بسبب قلة ذات اليد, ومثلهم كثير, فهل ينهض أثرياؤنا لسد عوز هؤلاء؛ لتخليصهم من عبودية هؤلاء المجرمين...؟ آمل ذلك, وفي بلادنا من أصحاب القلوب الرحيمة من نفخر بهم, ونعتز بمشاريعهم الخيرية, وببذلهم يبارك الله في أموالهم, ويوسع في أرزاقهم...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي