المضاربة على التفاؤل ..
من أروع المانشيتات التي قرأت مانشيت نشر في صحيفة "الجزيرة" للمحلل المالي وليد العبد الهادي بقوله "المستثمرون يحسمون تفاؤلهم بنتائجها .. قمة العشرين في الانتظار .. وقمم سعرية تغازل رؤوس الأموال"، وأقول وأي أموال تلك التي تغازلها القمم السعرية، إنها الأموال الجريحة التي سقطت أخواتها في ساحات أسواق المال أسيرة في محافظ كبار المضاربين، وهي تتحين الفرصة للدخول مرة أخرى لتلك الساحة لتحرير خسائرها بضربة سريعة وخاطفة.
صغار المستثمرين الذين تشكل أموالهم مجتمعة أموالا كبيرة تصل للمليارات يتحينون الفرصة للدخول السريع والحاسم لتعويض خسائرهم، وكبار المضاربين يعلمون هذا ويستدرجونهم لكمائن تكتيكية تجعلهم يظنون أن وقت الدخول قد حان ولا يجب تفويته ليدخلوا أفواجا فيقعون في شراكهم الذكية ليسلبوا مزيدا من هذه المليارات التي تعمل خارج نطاق الاقتصاد الحقيقي دون أي قيمة أو قيمة مضافة تذكر، سوى الأنات والآهات والآلام والضياع الاجتماعي والاقتصادي لكثير من البسطاء.
الأزمة المالية أزمة حقيقية، وليست أزمة خيالية، وقعت نتيجة لسياسات مالية لا ضابط لها، جعلت من توليد المال من المال وسيلة استثمارية، وحجمها وإفرازاتها كبيرة جدا، بل ومرعبة راح ضحيتها ويترنح تحت ضرباتها مؤسسات كبيرة وصغيرة وأفراد من كافة المستويات بما في ذلك الأفراد الذين يقبعون تحت خط الفقر، حيث سرقت أبسط ملكياتهم التي على أرضها كانوا يقيمون، وبأنقاضها كانوا يستظلون.
هذه الحقيقة تجعلنا على يقين بأن الحلول المقترحة والتي شرع المجتمع الدولي في تطبيقها لمعالجة الأزمة المالية وإفرازاتها لن تؤتي أكلها بين عشية وضحاها، خاصة وأن القوم مختلفون على استراتيجية الحل، هل تأخذ مسار معالجة الآثار من خلال تحفيز الاقتصاد أو معالجة الأسباب من خلال إعادة هيكلة النظام المالي العالمي وسن مزيد من التشريعات على أسس جديدة تقيه شر مثل هذه الهزات.
ورغم هذا اليقين إلا أن المضاربين يستخدمون الاجتماعات التي تعقدها التجمعات الدولية هنا وهناك وما تخرج به من تصاريح علاقات عامة لرفع المعنويات وإعادة الثقة للمستثمرين والمستهلكين لنصب شراك كمائنهم لصغار المستثمرين في أسواق الأسهم برفع الأسواق بشكل سريع ومبالغ فيه لكي تصل إلى قمم سعرية لا تغازل رؤوس الأموال المتأهبة فحسب، بل تدعوها لممارسة الفجور المالي على مرأى من الناس دون تدخل من هيئة مالية تأمر بالتعقل وتنهى عن التهور العاطفي، بل إن التدخل الكبير الحاضر أمام الجميع هو التدخل الإعلامي الذي يلعب الكبار دورا كبيرا في تشكيل مضامينه ليتجه القوم إلى حيث يريد الكبار في مسرحية تكاد لا تنتهي فصولها منذ أن انطلقت شرارتها في أواخر عام 2003م حيث زج بالجميع إلى سوق مالية عالية المخاطر تعطيك ثم تعطيك حتى تجلب كل ما لديك طمعا في المزيد من العطاء ثم تفسخ عنك كل شيء في أيام معدودات لترجع بك إلى نقطة الصفر أو دونها بكثير.
مهمة من حماية صغار المستثمرين في السوق المالية؟ بكل تأكيد أنها مهمة هيئة السوق المالية، فهي المسؤولة عن تنظيم وتطوير السوق المالية، و تنمية وتطوير أساليب الأجهزة والجهات العاملة في تداول الأوراق المالية، وحماية المستثمرين من الممارسات غير العادلة وغير السليمة التي تنطوي على احتيال أو خداع، أو غش، أو تلاعب، أو التداول بناءً على معلومات داخلية، وكيف لها ذلك والمستثمر حر في أمواله؟
وأقول يمكن لها ذلك من خلال تطبيق اللوائح حيث ترصد وتضبط وتحيل كل متلاعب وهو ما تطور الهيئة قدراتها للقيام به بكفاءة عالية ونرى نتائجه بين الفينة والأخرى، ومن خلال التوعية ثم التوعية ثم التوعية التي يجب ألا تتوقف بحال من الأحوال، حيث يجب على الهيئة تشيكل ثقافة الاستثمار في السوق المالية لكي تلعب السوق المالية دورها الحقيقي في تمويل تأسيس الشركات والتوسع في أنشطتها من خلال تنمية مدخرات المواطنين، بدل سلبها كما هو حاصل الآن حيث لا بيت سعوديا لا يعاني جراح سوق الأسهم إلا ما ندر.
والتوعية ذات الأثر، وليست التوعية من أجل تبرئة الذمة، ليست عملية سهلة تتم من خلال حملة توعية يتيمة تنقطع سنوات، بل هي عملية مخططة ومدروسة وعلمية ومستمرة ومرنة يقوم بتخطيطها والإشراف على تنفيذها نخبة من المفكرين الاستراتيجيين في مجال توعية الجموع وإعادة تشكيل معارفهم ومواقفهم وسلوكياتهم، وذلك باستخدام كافة الآليات والوسائل الاتصالية المقاسة النتائج وفق معايير واقعية، وبكل تأكيد فإن ذلك لا يكون دون أن تخصص الهيئة ميزانية ملائمة لهذه الغاية النبيلة.
ختاما أود أن أقول للقائمين على هيئة السوق المالية إن كبار المضاربين لا يعدمون الحيلة لاستدراج أموال المواطنين والمقيمين مستخدمين كافة الوسائل والحيل والتطورات بما في ذلك " التفاؤل" وإن كان سرابا، وأن لا قوة توقفهم عن غيهم هذا سوى الوعي، ولا وعي دون خطة توعية استراتيجية مستمرة تحظي بالاهتمام والمال الكافي، وإلا ستفقد سوقنا المالية زخمها كقوة تمويلية تسهم في تنمية الاقتصاد السعودي بما يسهم في تحقيق الأهداف التنموية المستدامة.