رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


قمة العشرين .. الوصفة المالية والوصفة الأخلاقية

استضافت المملكة المتحدة يوم الخميس الموافق 2 أبريل من عام 2009، قمة الدول العشرين, وذلك بهدف مناقشة الوضع الاقتصادي العالمي المتدهور, والبحث عن حلول ناجعة لهذا الكساد الذي أصاب كثيرا من دول العالم. ومنذ بداية الأزمة كثرت التحليلات, وعقدت المؤتمرات وورش العمل من قبل ذوي الاختصاص، سعياً من الجميع إلى إيجاد الحلول المناسبة, وكما نعلم فالعلاج يتم من خلال تشخيص العلة, والأسباب التي أوجدتها, فالطبيب يقوم بعمل الفحوص والتحاليل الضرورية حتى يتأكد من المرض الذي يعانيه المريض ثم يصف له الدواء الذي يتناسب مع طبيعة مرضه. وحين التأمت قمة العشرين في لندن صاحبتها مظاهرات صاخبة من الأوروبيين الذين يحسون بالمشكلة, وربما يدركون أسبابها الحقيقية، حيث رفع المتظاهرون شعارات تندد بالعولمة التي يرون أنها تحولت إلى غولٍ يلتهم مقدرات الشعوب والأمم، وخاصة أن العولمة في نظر هؤلاء المتظاهرين ما هي إلا أداة من أدوات الرأسمالية الشرسة, التي تهدد كثيرا من مواردهم وأرزاقهم لتصب الثروات في نهاية المطاف في حسابات الأثرياء والشركات العملاقة، وخاصة أثرياء وشركات الولايات المتحدة الأمريكية. وقد سبق القمة تصريحات من قبل الرئيس الفرنسي ساركوزي, والمستشارة الألمانية ميركل، طالبا فيها بضرورة إعادة النظر في النظام المالي العالمي, وضرورة البحث عن مظلة دولية بدلاً من الاستمرار تحت المظلة الأمريكية, كما أن الصين طالبت بضرورة إيجاد عملة بديلة عن الدولار, وقد جاء رد الفعل الأمريكي سريعاً إزاء هذه الدعوة, وأكد المسؤولون الأمريكيون أن الدولار لا يزال هو العملة القادرة على الاستمرار بصفتها العملة الدولية القوية, لكن هذا القول لم يعد يقنع كثيرا من الناس في أنحاء العالم الذي رأى بأم عينيه تهاوي المؤسسات المالية الأمريكية, وإفلاسها, وامتداد الأثر السلبي إلى شركات ومؤسسات الإنتاج, وبالأخص الصناعية، مثل صناعة السيارات التي سرحت كثيرا من موظفيها وربما تعلن إفلاسها في أي لحظة.
البيان الختامي للقمة خرج بمجموعة قرارات يرى رئيس الوزراء البريطاني جوردن براون أنها قرارات عملية وليست لفظية, وأنها كفيلة بمعالجة الأزمة المالية والتقصير من عمرها, والمحافظة على الوظائف. ومن أبرز ما قررته القمة ضخ الأموال, وهذا ما تطالب به الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترى أن حل الأزمة يتم بضخ مزيد من الأموال كي تتحرك عملية الإقراض وتنشط التجارة، بدلاً من الركود الذي واجهته الأسواق المالية خلال الفترة الماضية. القمة قررت ضخ تريليون دولار في الاقتصاد العالمي عن طريق صندوق النقد الدولي, وكذلك ضخ خمسمائة مليار دولار لزيادة موارد صندوق النقد الدولي, إضافة إلى 250 مليار دولار لتمويل التجارة الدولية, وإزاء هذه المبالغ الضخمة يتساءل المرء: من الذي سيضخ هذه الأموال؟ وما آلية ضخها إذا ما أريد لها أن تسهم في شفاء النظام المالي العالمي, ومن ثم إبعاد شبح الكساد؟! وما المردود الذي ستحصل عليه الدول التي طُلب منها ضخ هذه الأموال؟ ما يخشاه المرء أن يكون مصير هذه الأموال كمصير الأموال والاستثمارات المودعة في البنوك الأمريكية, التي اختفت بإعلان هذه البنوك إفلاسها, وتضررت بذلك كثير من الدول, إضافة إلى الأفراد الذين فقدوا مدخراتهم التي راهنوا خلال تلك السنين على أنها في مكان آمن نظراً إلى قوة الاقتصاد الأمريكي في سنين ماضية. لأول مرة تشارك المملكة في هذه القمة، وقد رأس وفد المملكة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, وفي هذا الحضور للمملكة تمثيل للعرب الذين يفترض أن يكون لهم وجودهم الفاعل على الساحة الدولية, وذلك للتأثير في صناعة القرار الدولي بشأن النظام المالي الدولي. ترى كيف تكون مساهمة العرب في النظام المالي الدولي؟ وكيف نسهم في تجنيب العالم الكارثة الاقتصادية المرتقبة؟ كتبت قبل أشهر مقالاً في هذه الزاوية حمل عنوان (أزمة المال وصورتنا عند الآخرين)، وقد تناولت هذه الأزمة, والدور الذي يجب أن نقوم به، ليس في إنعاش سوق المال بالمسكنات والمهدئات المالية, ولكن من خلال تضافر الجهود كافة من قبل المؤسسات ذات العلاقة من مصارف, ومؤسسات اقتصادية، وأقسام الاقتصاد, والمالية, وذوي الخبرة كافة، بهدف إيجاد نظام مالي يعالج مشكلات النظام المالي الحالي القائم على الرأسمالية الشرسة القائمة على التنافس الحاد المفتقد لأي أسس أخلاقية توجهه, وتضبط بوصلته، بدلاً من انحرافه لمصلحة الأغنياء, وعلى حساب الفقراء. الرئيس الفرنسي ساركوزي هدد قبيل انعقاد القمة بالمقعد الشاغر، وذلك بترك المؤتمر ومغادرته إذا لم يناقش النظام المالي، وقد دعى إلى ما سماه بالصيغة الأخلاقية للنظام المالي, والاقتصادي العالمي، ومع أن ساركوزي لم يغادر المؤتمر, وأثنى على قرارات المؤتمر، إلا أن هذه الدعوة تشخص المشكلة والأزمة التي يعانيها العالم بوجود دولة مهيمنة على العالم سياسياً، ومالياً، واقتصادياً، وعسكرياً، ولذا فما يريده العالم منا يجب ألا يكون فقط ضخ أموال في قنوات الإنعاش، بل لا بد أن نقدم للعالم ما هو أهم وأكبر من ذلك، ألا وهو أن نعيد تشكيل نظام العلاقات بين مجتمعات العالم ونطرح تصوراً جديداً للنظام المالي العالمي, وكذا النظام الاقتصادي برمته، وفي هذا فرصة مواتية للاقتصاد الإسلامي ليقدم نفسه كمنقذ للعالم مما يعانيه بسبب الفساد وانعدام الأخلاق والجشع المريع. إن كان الرئيس ساركوزي قد دعى إلى صيغة أخلاقية، فإنني أرى أن تكون وصفة أخلاقية مثلها مثل الوصفة الطبية التي تشفي المريض من علته، وهذا ما يحتاج إليه العالم بدلاً من عمليات الترقيع التي تحاول الولايات المتحدة استخدامها بدعوة الآخرين المشاركة في معالجة علل النظام المالي العالمي ورفض أي دعوى من شأنها وضع النظام المالي الحالي على طاولة البحث والنقاش التي لا محالة ستطول الفلسفة التي يقوم عليها النظام السياسي والاقتصادي الغربي، وبالذات الأمريكي. فهل يطمع العالم أن نقدم له كنزاً فكرياً تنعم به الشعوب والمجتمعات كافة بدلاً من تقديم أموال لا يستفيد منها سوى الأثرياء؟! إن مؤسسات العلم, والمعرفة, وبالذات الجامعات، مطالبة في هذا الوقت بتقديم الوصفة الحقيقية التي قد تعيد تشكيل العالم والعلاقات بين أطرافه, وتحريك مراكز القوى من أماكنها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي