هل يتم توظيف "الوقف" للارتقاء بأداء الجامعات الوطنية؟
تناولت نشرة صحفية صادرة من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في النصف الثاني من آذار (مارس) الماضي مبادرة تستحق التوقف والتمعن في مدلولاتها. تلك هي إقرار مجلس أمناء الجامعة تعيين أحد كبار موظفي البنك الدولي كمدير تنفيذي لإدارة الشركة الاستثمارية المملوكة للجامعة KAUST Investment Management Co.، والتي ستقوم بإدارة وقفيات الجامعة المؤمل افتتاحها في أيلول (سبتمبر) المقبل. هذه المبادرة التي تحاكي نهجا تبنته الجامعات العالمية المرموقة منذ عقود طويلة تعد خطوة مهمة لتحقيق رؤية الجامعة في تأمين عوائد تساعدها على أداء رسالتها العلمية وتشكل خطوة متقدمة في هذا المجال على مستوى الجامعات الوطنية تلي مبادرة أخرى قامت بها جامعة الملك سعود التي أنشأت العام الماضي مجلسا لإدارة أوقاف الجامعة. وكلا الخطوتين تعد توجها محمودا يستحق التشجيع والدعم كونه مطلوبا بإلحاح في الفترة المقبلة لأنه يمثل خطوة أولى على طريق النهوض بمؤسسات التعليم العالي الوطنية لمواكبة التطورات التقنية المتسارعة في عصرنا الراهن، عصر المعرفة والمعلومات. فمثل هذه المبادرات ستساعد الجامعات على تحقيق موارد ذاتية تجنبها الاعتماد على الدعم الحكومي، إما لعدم كفايته وإما لتذبذبه وفقا لتذبذب عائدات الدولة، وبالتالي ستوفر للجامعات الوطنية الإمكانات المادية التي تمكنها من استقطاب أفضل الموارد البشرية والتي بدورها تمكنها من إنتاج مخرجات تعليمية متميزة، فالتميز العلمي باهظ التكاليف، وما يرصد للجامعات الحكومية في الموازنة العامة لا يفي بمتطلبات الوصول بها إلى مراتب التميز في مخرجاتها. وهذه المقالة تهدف إلى تسليط الضوء على هذه السنة الحميدة التي جاء بها ديننا الحنيف الإسلام وغابت عن مجتمعاتنا في الوقت الحاضر فيما انتشرت بصورة ملحوظة في الغرب، حيث تمول أشهر وأعرق الجامعات هناك أنشطتها التعليمية والبحثية ـ بصورة أساسية ـ من إيرادات وقفياتها التي تتنامى منذ عقود، والتي هي بالأساس تبرعات قدمها أثرياء فخدموا مجتمعاتهم وخلدوا أسمائهم بذلك العطاء.
الوظيفة العامة للمال الخاص
تمول الجامعات العالمية برامجها الأكاديمية والبحثية من خلال عدد من مصادر التمويل منها: الرسوم الدراسية، والعوائد من استثمار وقفياتها، والمنح والهبات التي يقدمها الأفراد والشركات والمصادر الأخيرة تجسد بصورة جلية "الوظيفة العامة للمال الخاص". فالكثير من المؤسسات الاجتماعية والتعليمية ومراكز الأبحاث العلمية العاملة في الدول الصناعية تمول من خلال هبات يقدمها الأفراد والشركات بعضها مشروطة والبعض الآخر مفتوحة وتأخذ في الغالب صيغة دعم برامج بحثية أو تمويل كراسي الأستاذية. وفي المملكة برزت في السنوات الأخيرة مبادرات للمال الخاص في هذا الاتجاه، إلا أنها كانت محدودة العدد ومتواضعة الحجم ولعل أبرزها مبادرات القطاع الخاص في تمويل إنشاء كليات غير ربحية كجامعة الأمير سلطان في الرياض ودار الحكمة للبنات في جدة، وآخرها قيام "أرامكو السعودية" بدعم إنشاء "وادي الظهران للتقنية" في رحاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وشركة سابك بدعم إنشاء "وادي الرياض للتقنية" في رحاب جامعة الملك سعود. وما يستحق الإشادة بها تلك المبادرات التي لم تقتصر على الجامعات الرئيسة الثلاث بل امتدت إلى جامعات قيد الإنشاء كمبادرة شركة ركيزة في دعم جامعة حائل التي أعلن عنها الأسبوع الماضي.
هذه المبادرات تمثل خطوات أولى على طريق النهوض بمؤسسات التعليم العالي وتمكينها من تحسين مخرجاتها وجاءت في الدرجة الأساس نتيجة لاستشعار تلك الشركات وعدد من مؤسسات القطاع الخاص الرائدة في المملكة بمسؤئوليتها الاجتماعية تجاه مؤسسات التعليم العالي التي تخلفت كثيرا عن الركب في السنوات الأخيرة لجهة نوعية المخرجات الأكاديمية والبحثية. لكن هذا الدافع لا يضمن استمرار تدفق الدعم مستقبلا ومن هذا المنطلق حري بالجامعات الوطنية تبني مبادرات لتحقيق موارد ذاتية تكتسب صفة الاستمرارية.
أوقاف الجامعات الغربية
تعتمد أعرق الجامعات الغربية في تمويل أنشطتها التعليمية والبحثية بصورة متزايدة على إيرادات وقفياتها وأصولها التي تتنامى منذ عقود، والتي أضحت تعادل موازنات دول في العالم الثالث. فعلى سبيل المثال تبلغ قيمة وقفيات جامعة كامبردج البريطانية في الوقت الحاضر نحو 7.9 مليار دولار، فيما تبلغ قيمة أصول غريمتها جامعة أكسفورد نحو 5.7 مليار دولار. وهذه الأرقام تعد متواضعة أمام قيمة وقفيات وأصول الجامعات الأمريكية حسبما هو موضح في جدول رقم (1)، فقيمة وقفيات جامعة هارفرد التي تعد الأعلى بين الجامعات الأمريكية بلغت 36.9 مليار دولار، تأتي بعدها في الترتيب قيمة أصول جامعة ييل Yale التي بلغت 22.9 مليار دولار ثم جامعة ستانفورد بأصول بلغت قيمتها 17.2 مليار دولار، تليها جامعتا برنستون وتكساس اللتان تجاوزت قيمة أصولهما 16 مليار دولار، وأخيرا معهد ماساتشوستس التقني MIT الذي بلغت قيمة أصوله 10.1 مليار دولار.
ولعل الملاحظة الجديرة بالتوقف عندها في بيانات جدول (1) هي معدلات النمو العالية التي حققتها الأصول والوقفيات التي تملكها الجامعات الأمريكية الست خلال الفترة ما بين 1986 و2008. فمعدلات النمو السنوي مثلا راوحت بين 8.6 و12.2 في المائة وهي نسب عالية قياسا بما حققته الصناديق الاستثمارية خلال الفترة نفسها وهو مؤشر إلى الإدارة الاحترافية التي تدير تلك الأصول. وكذلك الحال بالنسبة لمعدلات النمو التراكمي خلال الفترة نفسها والتي راوحت بين 517 و1195 في المائة وهي مؤشر إلى تباين إدارات تلك الصناديق ما بين نهج محافظ حقق أقل نسبة نمو يقابله نهج أقل محافظة حقق نسب نمو عالية، كما في حالة جامعات ييل وستانفورد .
وتبدو وقفيات الجامعات الكندية متواضعة أيضا قياسا بجاراتها الجامعات الأمريكية وتتقدمها جامعة تونتو بوقفيات قيمتها 1.75 مليار دولار وجامعة بريتيش كولومبيا بوقفيات تزيد قليلا على مليار دولار. وعلى مستوى الشرق الأوسط تبرز دولة الكيان الإسرائيلي كأحد أهم الدول التي تملك جامعاتها أوقاف وأصول أغلبها جاءت كهبات من الجالية اليهودية في أمريكا الشمالية من خلال جمعيات نفع عام مسجلة في تلك الدول أبرزها: جمعية أصدقاء الجامعة العبرية الأمريكان، وجمعية أصدقاء جامعة تل أبيب الأمريكان، وجمعية أصدقاء الجامعة العبرية الكنديين. وتنشط تلك الجمعيات في جمع الهبات والمنح والأوقاف لتلك الجامعات من خلال أنشطة تنظمها سنويا، فعلى سبيل المثال بلغت قيمة الهبات التي جمعتها جمعية أصدقاء الجامعة العبرية في عام 2000 أكثر بقليل من 600 مليون دولار زادت لتصل في الوقت الحاضر إلى نحو مليار دولار.
وقفيات جامعة هارفرد الأمريكية
لكونها الأكبر من حيث قيمة وقفياتها وأصولها بين الجامعات العالمية قد يكون من المناسب التركيز على وقفيات جامعة هارفرد التي بلغت قيمتها منتصف عام 2008 نحو 36.9 مليار دولار وتديرها شركة مملوكة بالكامل للجامعة Harvard Management Co. تم إنشاؤها عام 1974 وتولى منصب الرئيس التنفيذي فيها خلال السنوات الأخيرة 2005-2008 محمد العريان وهو أمريكي من أصل عربي. ويعمل في الشركة 180 موظفا وتتوزع محفظتها الاستثمارية على 12 قطاعا في السوق الأمريكية وأسواق الدول الناهضة Emerging Markets بعضها ذات عوائد ثابتة كالسندات والأوراق المالية وأخرى متغيرة كالسلع والعقارات والزراعة. والأصول التي تديرها الشركة ليست محفظة واحدة بل نحو 11 ألف محفظة أو صندوق بعضها مشروطة لتمويل برامج بحث محددة والبعض الآخر لكراسي الأستاذية في مجالات محددة.
وفي العادة يتم تخصيص 5 في المائة من عوائد الاستثمار التي تحققها الشركة سنويا للمساهمة في ميزانية الجامعة التشغيلية والفائض يعاد استثماره من قبل الشركة لتعزيز أصول المحفظة الاستثمارية وتعويض الفاقد نتيجة للتضخم والانكماش الاقتصادي. ومثلت التوزيعات النقدية التي وزعتها الشركة في عام 2008 نحو ثلث الموازنة التشغيلية لجامعة هارفرد أي نحو 1.6 مليار دولار. جدير بالذكر أن اعتماد جامعة هارفرد على عوائد أرباح ذراعها الاستثمارية أخذت اتجاها تصاعديا، حيث نمت مساهمتها في موازنتها التشغيلية من 21 في المائة عام 1997 إلى 33 في المائة عام 2008 . كما أن النمو في إجمالي قيمة أصول الشركة أدى إلى زيادة في حجم العوائد التي تحصل عليها الجامعة، فعلى سبيل المثال زادت عوائد الجامعة المتحصلة من الشركة الاستثمارية خلال الفترة من 2001 إلى 2008 بنسبة 160 في المائة من 615 مليون دولار إلى 1.6 مليار دولار وساعدت هذه العوائد جامعة هارفرد على تقديم حوافز لاستقطاب أفضل الأساتذة وتقديم منح دراسية للطلبة المتميزين، حيث زادت قيمة المنح التي تقدمها الجامعة للطلبة خلال الفترة 2001 إلى 2007 بنسبة 94 في المائة من 156 مليون دولار إلى 302 مليون دولار .
وبطبيعة الحال فإن الأمر لا يخلو من مخاطر تتعرض لها الاستثمارات، لكن الإدارة الكفؤة وتوزيع الاستثمارات على عدد من القطاعات الاقتصادية يساعد على تقليل أو تحجيم أثر تلك المخاطر. فعلى سبيل المثال تآكلت قيمة المحافظ الاستثمارية للجامعات جراء الأزمة الاقتصادية العالمية فخسرت جامعة ييل Yale بحلول كانون الثاني (ديسمبر) من عام 2008 نحو 25 في المائة من قيمتها وهو ما يمثل 5.5 مليار دولار وخسرت محفظة جامعة هارفرد نحو 22 في المائة من قيمة محفظتها تمثل نحو 8.1 مليار دولار. لكن على الرغم من هذه النتائج السلبية تبقى القناعة لدى إدارات تلك الجامعات وشركاتها الاستثمارية أن هذه الآلية هي الأفضل لتنمية مواردها الذاتية على المدى الطويل.
ما المطلوب عمله؟
ارتفاع تكاليف التعليم العالي المتميز والإنتاج العلمي المبتكر يستدعي قيام الجامعات الحكومية بمبادرات لاستقطاب دعم مؤسسات القطاع الخاص. وهذا ما بدأنا نشهده في السنوات الأخيرة والذي لقي تجاوبا طيبا من القادرين من أبناء المجتمع أخذ أشكالاً عدة منها: تمويل برامج البحث العلمي، وتقديم منح لكراسي الأستاذية، وتجهيز المختبرات العلمية ومراكز الحاسب الآلي. لكن تبقى تلك المبادرات نقطة في بحر قياسا بما تحتاج إليه الجامعات. وبتقديري إن بلورة وإدامة أي شكل من أشكال التعاون بين الجامعات والقادرين من أبناء المجتمع يتطلب من الجامعات ألا تنتظر أن يأتيها الدعم تلقائيا، بل عليها القيام بمبادرات لاستقطاب الدعم المطلوب. وهذا يتطلب إعادة هيكلة الجامعات بما يمكنها من بيع خدماتها الاستشارية والبحثية "المتميزة" للقطاع الخاص وتحقيق مردود مادي يساعدها على أداء رسالتها الأكاديمية. وحتى تحقق تلك المبادرات أهدافها يجب أن تكون مدروسة بعناية وألا تغفل تكريم من يتجاوب معها عرفاناً بما قدم وتشجيعاً للقادرين من أبناء هذا المجتمع على المشاركة في مشاريع بناء مستقبل الوطن.
ولعل الأهم من ذلك هو قيام الجامعات الحكومية بمبادرات تهدف إلى حث الأثرياء ورجال الأعمال السعوديين على وقف بعض ممتلكاتهم لدعم برامجها وأنشطتها وبموازاة ذلك عليها أن تعمل على تأسيس شركات متخصصة لاستثمار وقفياتها بصورة احترافية مثلما فعلت جامعة الملك عبد الله.
يبقى من المهم القول: إن أرقى مراتب العمل الوطني أو الاجتماعي تتمثل في مشاركة القادرين شعوبهم ومجتمعاتهم في مشاريع التحسين والارتقاء الاجتماعي، فالمساعدات التي قدمتها عائلة روكفلر مثلا لمؤسسات التعليم العالي في الولايات المتحدة هي أهم إنجازاتها وليس المصارف ولا المؤسسات المالية التي تملكها.